الفصل السادس والعشرون

2.2K 99 8
                                    

عبدالله

١٥ ديسمبر ٢٠١٦

رسالة بُعثت الي من جوى على (الفيسبوك) قلبت حالي وغيرته، بل لونت يومي، وساعاتي (مرحبا، انا في إسطنبول مع عائلتي، ارغب برؤيتك قبل، ممم اسمع عندما اراك سأخبرك بكل شيء، ابعث لي عنوانك)، قرأت الرسالة مرة ومرتان حتى ثملت من حروفها، ابتسمت وانا أتذكر، ضربات قلبي بدأت تتسارع وانا اقف في شرفة شقتي الجديدة اراقب الشارع، كل سيارة اجري مرت به كنت اكاد ان اقفز من الدور الرابع لأنظر من بداخلها، لتخيب ظنوني، حتى رأيت سيارة اجرة تقف امام العمارة لتترجل منها هي، اتسعت ابتسامتي وجريت للداخل، خرجت من شقتي ونزلت عبر السلالم بسرعة، اختصرت كل درجتين مع بعضهما لأتخلص من هذه المسافة، الى ان وصلت للدور الأرضي، كانت للتو تهم بالدخول، توقفت في مكاني انظر اليها كأنني اراها للمرة الاولى، اتسعت ابتسامتي وانا أرى عيناها الذابلتان، وجهها، شعرها، شفتيها، قبلت عيني كل شيء بها، احتضنها قلبي قبلي، اقتربت منها بخطوات بطيئة كأنني امام سراب أخاف الاقتراب وتتلاشى، فتحت هي ذراعيها بينما دموعها بدأت تجري على خديها، اقتربت بسرعة لأحتضنها واحملها بين ذراعي، ضمتني بقوة وهي تعتصر قميصي، بكيت وانا اقبل كل خصلة في شعرها، بينما هي انتحبت، انزلتها على الأرض لأمسك بوجهها بكلتا يدي، قبلت جبينها، شعرها وجنتيها، شفتيها، ودموعها.
قالت وسط بكائها: وكأنني الان بُعثت من الموت.
دفنت رأسها في صدري، اريد إدخالها بين أضلعي، هي بالفعل تسكنني، شبكت اصابعي بين اصابعها لنصعد لشقتي، لم اشعر بأي تعب اثناء صعودنا تلك السلالم، وجدنا أنفسنا في مكان جديد سنترك فيه ذكريات، دخلت وهي تتفحص المكان، ابتسمت وهي تدور بالقرب مني معلقة: نفس التصميم.
لم اغير شيء، فما زلت أكره الجدران، ما زلت أفضل النوم والاكل في مكان واحد، لكنها توقفت بالقرب من السرير تنظر للجدار، حدقت بدهشة لصورها معلقة جميعها بعشوائية تتجمع علي ذاك الجدار، صور عددها هائل التقطت لها دون ان تعلم، ضحكت وهي تضع يدها على فمها، التفت الي والدموع في عينياها اقتربت مني فأمسكت وجهها بيدي لأقبلها، اشتقت لهذا الطعم، لملمس شفتيها، للغرق بهذه النشوة، للسقوط بحرية، لأن اثمل، ابتعدت عن شفتيها لأقترب من رقبتها، طبعت قبلاتي على عنقها الحريري، لأشعر بجريان الدم في شرايينها، همست بلسان ثقيل وجسد مُخدر: كدت اموت في غيابكِ.
رفعت رأسي لأقابلها مسحت على وجهها قائلاً: حدثيني عن كل شيء مررتِ به، كل شيء.
حضرت لها شاي بالأعشاب الذي فضلته دائماً، كانت هي مستلقية على الاريكة تحدق في السقف، تخبرني عن كل شيء، كآنها في جلسة مع طبيب نفسي، اقتربت حاملاً كوبي الشاي، جلست انا على حافة الطاولة الخشبية التي تقابل الاريكة، نهضت قليلاً لتصبح في وضعية الجلوس، ناولتها الكوب، بدأت هي تدور بسبابتها على حافته، رفعت كآسي في الهواء بنصر قائلا: اذن يمكننا ان نتزوج الان!
عقدت حاجبيها لتسألني: كيف؟
اجبتها ببساطة: والدكِ مات، ما الذي يمنعنا الان؟
اجابتني وهي تقطب حاجبيها: ماذا عن عائلتي وسفرهم؟
مطيب شفتي ببرود: ما شأننا؟ ليفعلوا ما يشاؤون.
وضعت الكوب على الطاولة لتقل: لا يمكنني، بت انا المسؤولة عنهم، كيف اتخلى عنهم في هذه الظروف.
ابتسمت وانا أعجز عن فهم ما قالته، فتحت عيني لأعلق: منذ متى اصبحتِ تكترثين لشأن أحد؟
اجابتني بجدية: منذ ان مات ابي.
رفعت رأسي للوراء بجزع، نهضت لأجلس بجانبها على الاريكة واضع قدميها على فخذي قلت لها: امكِ وجدتكِ موجودتان، يمكنهما تحمل مسؤولية أي شيء، لم انتِ؟
بعصبية ردت: لن ادع امي تدمر اختي وأخي.
بدأ غضبي يتضاعف لكنني بالكاد أحاول السيطرة عليه، جززت على اسناني لأعلق: اذن ستصبحين راهبة في سبيل الحفاظ على عائلتكِ؟ ماذا عنا نحن؟ ماذا عني؟
ابتسمت بسخرية لتجيبني: ماذا؟ لم يحدث لك شيء، كأنني لم ازرك، وكأنك بقيت تعتقد انني في العراق، كما حدث في الماضي.
رفعت حاجبي بصدمة، منذ متى أصبحت هكذا؟ ما الذي دهاها لتكون بهذا البرود؟ لماذا لم يعد يؤثر بها شيء؟ اغمضت عيني أحاول تنظيم انفاسي، سحبت قدميها من فوقي لتنهض قائلة: علي الذهاب.
اوقفتها وانا اجرها من ذراعها لأوبخها: ما الذي تفعلينه؟ لم اتيتِ من الأساس ان كنتِ ستتركينني؟ لم اصبحتِ هكذا؟ أجيبيني.
دفعتني عنها لتصرخ: منذ ان رحلت انت، وبعدها تغيرت حياتي، منذ ان استولت امي السلطة من ابي، منذ تركي لوطني، كل شيء كسرني، لم اعد اقوى، لم اعد انفع لأي شيء.
جادلتها بقهر: ترين نفسكِ تنفعين لأن تساندي اخوتكِ أكثر من نفسكِ؟
اشارت بيدها بتعب: لا اُريدهما ان يصبحا مثلي.
- من اخبركِ انكِ سيئة؟ الا ترين نفسكِ بعد كل ما مررتِ به ما زلتِ تقفين! ثم انكِ هكذا تدمرين نفسكِ.
سخرت مني قائلة: انت من تتحدث عن تمدير النفس ههه، إسطنبول قد غيرتك.
- بل إسطنبول افقدتكِ عقلك.
بحثت وهي تدور حول نفسها عن حقيبتها، حتي رأتها على الأرض، سرت بسرعة تجاه الباب امنعها، مددت يدي امسك بمقبض الباب لأصرخ بها: ستهلكون ان سلكتم البحر هاربين.
احتد صوتها لتجيبني: ليس قراري، تعلم انني طوال حياتي لم اتخذ قراراً بمفردي.
اقتربت لأمسك بوجهها بيدي أحاول ان اقنع ما تبقى منها: خذيه الان، هذه الفرصة الوحيدة لنا، ارأيتِ كيف شاء القدر وجمعنا من جديد بهذه الاهوال!
ابتسمت: الان بت تؤمن بالقدر؟
- امنت بكِ.
اقتربت مني لترفع نفسها وتقبل وجنتي، قائلة بصوت هامس: احبك.
شعرت بيدها تمتد لتفتح مقبض الباب، ادارته لتخرج من شقتي بينما انا أقف مذهول، جوي التي كانت تشد الوثاق لنبقى معاً هي الان قطعت كل ما يربط بيننا لترحل.













روح

الحاضر

التفت اليه بعد ان انهيت قصتي لأختمها له بغرقنا، وموت الجميع، كان هو يجلس على الاريكة بينما انا امامه على الكرسي الذي يجاور النافذة، نهض من كرسيه وهو يبتسم بأسى لي، اقترب فأدرت رأسي تجاه النافذة من جديد، شعرت بيده على كتفي يضغط عليه، قال لي بنبرة هادئة: سنبدأ من جديد، تخلصنا الان من ثقل كبير كان يدفن قلبكِ، التفت اليه لأرفع رأسي ليكمل هو: بالمناسبة انتِ شخص كتوم جداً، هذه أحد الأسباب ايضاً، لم تحدثي أحد عن حزنكِ.
علقت ساخرة: هل تراها قصة تستحق؟
- الجميع يستحق.
حركت رأسي نافية، لا حياتي مملة، انا لست مثلها، مددت يدي لأمسك سلسلتي، خلعتها عني لأرفعها اليه، ابتسم وهو يأخذها يمعن النظر بها، قلت وانا انظر للأرض بشرود: ظننت ان اسمي جوى، لكن اسم الحقيقي نجمة.
انحني هو كالقرفصاء ليقابلني قائلاً: اعلم يا نجمة.
بلعت غصة بداخلي لأخبره بحزن: جوى ماتت مع الجميع، كانت تبتسم لأخر لحظة، ابتسامتها هي اخر شيء رأيته.
مد يده ليمسك بيدي، مسحها بلطف، حاول ان يلاطفني قائلاً: سنلعب لعبة.
سألته باستغراب: لعبة!
نهض من مكانه وهو يفتح ذراعيه: ستكونين انتِ استاذتي، سأخبرك بكل شيء، سأحلل ما حدث كله وانتِ من ستقيمين.
عدت بظهري للوراء لأحرك رأسي بإيجاب، بدأ يحرك يديه وهو يشرح لي بحماس: انتِ وجوى تربيتما في عائلة قاسية، كثرة ضغطهم عليكما، انتجت جوى المتمردة، وانتِ التي تخشى التجارب حتى، لأن جوى انسلتت من بين قبضة والديكِ فقد احكما القيود حولكِ كي لا تصبحي مثلها.
قلت وانا أرمش عدة مرات: اجل.
أكمل مشيراً: كلاكما مررتما بنفس التجارب تقريباً، لكن ولأن لكل منكما شخصية فمن الطبيعي اختلف وقع أي شيء تتعرضان له، مممم، سأحاول ان اوضح، تلك الشجارات بين والدكِ ووالدتكِ كانت تؤثر على جوى لأنها تخوض هذا الشيء معهم باندفاع، واثرت بشكل كبير عليكِ ايضاً،
اقترب مني ليردف بتركيز: في العادة عندما نشاهد فيلماً نكترث لما يتعرض لها البطل فقط، سواء حادث او أي مصيبة، نركز على مشاعره، تصرفاته، ننسى ان هناك افراد حلت عليهم ذات المصيبة، كانوا جميعهم في مشهد واحد، لكنهم منسيون، او،
صمت ليتنهد وكأنه يفكر، حرك يده في الهواء دون ان ينطق بكلمة، لكنه أضاف: كنتِ موجودة في كل حدث تعرضت له جوى، منذ الطفولة، وعندما تمردت شاهدتها وهي تُضرب فسبب هذا لكِ رهبة من حتى الاعتراض على شيء، عندما كانت تتشاجر مع عبد الله وترينها تبكي، ممم،
سار ليجلس على الاريكة التي امامي ليسند مرفقيه على فخذيه ليعود للحديث: عندما كانت تضرب، او حتى عندما تحطمت احلامها بالزواج منه، بالإضافة الى وجودكِ مع ياسمين عند موت خطيبها.
مسحت وجهي بكفاي، اعدت خصلات شعري خلف اذني سألني: هل تعبتِ؟
تنهدت لأجيبه: لا، أكمل.
- منذ وفاة جدكِ، وانتِ تعانين، مع كل سوء مسكِ كانت تظهر بوادر الاكتئاب، اخبرتني عن نومكِ، فقدان شهيتكِ، ذاك الألم في الرأس والم العظام، لكن مع الأسف المجتمع لا يصدق ان للطب النفسي دور، لذلك لجأت والدتكِ لشيخ الى ان تفاقم كل شيء لدرجة انكِ انعزلتِ عن الجميع واصابكِ البرود في الآونة الأخيرة.
اعدت رأسي للوراء لأسند على ظهر الكرسي، نظرت للسقف بتعب، هل كنت سأكون مختلفة ان وجدت من قبل أحدهم يحل ببساطة تلك العقد التي تشابكت داخلي؟ سمعته يسألني: ما رأيكِ ان نكمل غداً؟
لم اجبه بل انفاسي العميقة اجابته، شعرت به قريب مني، قلت وعيني ما زالت مغمضة: لا تذهب.
- سأبقى.
فتحت عيني لأراه يبتسم، سار تجاه الاريكة مرة أخرى ليستلقي عليه يتظاهر النوم معلقاً بمزاح: سأنام هنا الليلة.
ابتسمت له بينما انا بقيت جالسة على مقعدي، عدت لأغمض عيني مبتسمة هذه المرة.


























جوى

٢١ فبراير ٢٠١٧

خلال فترة اقامتنا في بودروم وبسبب الظروف التي نحن مُقبلين عليها، تعرفنا علي عائلة سورية فروا من حلب ليلجئوا الى تركيا، مصيرهم كمصيرنا، ينون الهرب عبر البحر، كانت اسرتهم تتألف من اب وام وثلاث أطفال لم يتجاوز اكبرهم الثامنة، كان الأطفال جميلين بحق، وجد اخي في هذه المحنة أصدقاء يلعب معهم، يُلهونه عن ما نمر نحن به، لأول مرة اشعر انني لا املك قوة لمواجهة شيء، اجدني عاجزة عن الرفض، عن الوقوف ضد الجميع، عن العودة اليه، أرى نفسي مقيدة معهم، يسحبونني كما يشاؤون لنواجه مصيراً محتوماً، وكأنهم لم يسمعوا عن اولئك الذين غرقوا قبلنا، لم اترك له لا عنوان ولا رقم هاتف بعد ذاك اللقاء فبقي هو في اسطنبول، كان سيحاول ايقافي لكن يداي لا تستطيعا ان تمسكان بأي شيء، حتى قرار مهم كهذا!
كانت برودة الجو قارصة، بدون حقائب، بدون ذكريات، كما نحن وقفنا امام القارب المطاطي الصغير، أكد لنا الرجل الذي اتفق مع الجميع انه لا شيء يدعونا للخوف، كان عددنا كبراً يصل للثلاثين فرداً، جميعهم كانوا متألفين من نساء وأطفال، يشبهوننا، هاربين من الموت على ارضهم. البحر كان مخيفاً في هذا الوقت من المتأخر ليلاً، بلعت ريقي بخوف وانا أراهم واحداً تلو الاخر يركبون القارب، التفت للخلف لليابسة، جوى عليكِ العودة، هذا جنون خلفكِ تقف الحياة، ينتظركِ حبيب مستعد لأن يقدم حياته قرابناً لكِ، عودي ودعيهم، لهم حياتهم، لقد تجرعتِ المر طوال حياتكِ، كفاكِ الان. صوت اخي ناداني وجدتي يدعواني لأن اركب معهم، بقيت اراقبهم بحيرة، لجدتي التي اضطرت لمسايرة امي لأنها لم تعد تملك شيئاً يربطها في هذه الحياة سوانا، اخي، نجمة البائسة التي فارقت الفرح منذ زمن، ابتسمت لهم وركبت معهم.
انطلق بنا القارب ليفارق اليابسة، نظرت للمسافة التي تتضاعف بيننا وبينها، فارقنا مرسى الحياة تاركين ذكريات نقشت على جلدونا لا في ذاكرتنا ايضاً. جدتي كانت تقرأ القران وتسبح، نظرت لأمي وهي صامتة تراقب ما يدور من حولها، تلك الامواج التي تبدأت تثور، قلت لها معاتبة: هل انتِ سعيدة الان؟
رمقتني بنظرة غاضبة لتجبني: انا افعل ما هو الأفضل لكم.
ضحكت بسخرية: هذا هو الأفضل؟ أتجدين الفرار على هذا القارب أفضل من جلوسنا في منزلنا امام الدفاية نشرب الشاي لنستمع لصوت المطر وهو يسقي حديقتنا.
صرت بي: يكفي.
الجميع التفت الينا، نظراتهم كانت مستنكرة الجدال في هذا التوقيت، مع توترهم وخوفهم، أحاطت جدتي كتفي لتواسيني، وضعت رأسي على كتفها، تدحرجت دمعة من عيني قلت بصوت منخفض: ليتني مُت هناك.
الامواج كانت تزداد عنفها اثناء حملها لقاربنا، كان الفجر للتو قد بزغ، لكن البحر كان أشرس من مما نظن، هواء بارد محمل بقساوة السنين التي مرت علينا ضرب وجوهنا، شعرت بارتعاش جسد جدتي الضعيف، مددت يدي لأفرك يديها المتجمدتان، حاولت ان اجبر شفتي لتبتسم لها، علقت مازحة: عندما نصل اريدكِ ان تحضري لنا الحساء الذي كنتِ تطهينه لنا في الشتاء، كان يُدفئنا.
ابتسمت لي بغصة لتقل: هذه هي جوى التي عهدتها من قبل.
نطق اخي الخائف ليسأل نجمة برعب وهو يسمع صوت بكاء الأطفال يعلو أكثر: هل سنموت؟
نظرت نجمة له في حيرة، هي نفسها لا تعلم الإجابة، تريد ان يطمئنها أحد، مددت يدي لأمسح علي شعره معلقة: لا، بل سنصل وسنعيش كما يجب ان نعيش.
رفعت رأسي لأنظر لها، ابتسمت لأطمئنها، لكن لم اكن قادرة على السيطرة حدث بعد ذلك، موجة قوية قلبت قاربنا لتقلب حياتنا، او تُنهيها.


انتِ مجرتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن