جوى
ما حدث بالفعل
تخيلت حدوث أي شيء الا ان ينقلب القارب بنا في عرض البحر، فجأة وجدت نفسي ملقاة في المياه، ارجت رأسي منه أحاول التقاط انفاسي، الامواج كانت تبعدني تريمين بعيداً كلما حاولت السباحة، أصوات بكاء الأطفال وصراخ الكبار كان يقف حاجباً لألا اسمع صوت عائلتي. قاومت لأسبح لكنني كنت ضد التيار، حركتي بطيئة وقوتي ضئيلة.
دخلت لداخل المياه لأسبح، بداخلي كنت ادعو الله، ارجوك كن معي، سبحت لأخرج رأسي بعد ان اختنقت، سعلت بقوة، دموعي اختلطت مع ماء البحر، قلت بنبرة باكية يائسة (يا رب) وكأن الله استجاب لنجدتي، رأيت على مسافة قريبة مني نجمة، لكنها كانت تقاوم الغرق، هي لا تعرف السباحة، عدت للماء مرة أخرى بعد ان حبست كم من الاوكسجين داخل رئتي، سبحت بقوة، لأرى جسدها مرتخي امامي، بسرعة حاوطت يدي بخصرها لنخرج على السطح، سعلت بقوة وانا اصرخ لأجعلها تستفيق، كان الماء يحاول ابعادنا عن بعضنا، لكنني بقوة امسك بها بينما هي غائبة عن الوعي تماماً، حتى سمعنا صوت ابواق قادم من بعيد، رفعت نفسي لألوح بذراعي للمركب الذي اتى لأجلنا. الى ان رأونا، رموا الينا طوقي للنجاة، ورفعونا عبرهما، ساعدنا رجلان من المنقذين عند صعودي للقارب، رميت بجسدي على ارضه بعد تشنج عضلات، قوتي خارت تماماً. رأيتهم يجرون الإسعافات الاولية لها لتتنفس، بينما حاولوا انهاضي، لفوا جسدي بوشاح لكنني ورغماً عن انف المي نهضت، حاولت ان اتحدث لكن انفاسي السريعة كانت توقفني، اشرت تجاه البحر بذعر اطلب منهم انقاذ ما تبقى من عائلتي، اقتربت انا من نجمة لأمسك بيدها الباردة، رفعت يدها لشفتي ارجوها ان تتمسك بالحياة، رأيتهم يخرجون من البحر جثث لأطفال، هؤلاء الأطفال السوريين الذين تعرفنا عليهم! وقفت بسرعة لأجري تجاهها، فارقا الحياة وهم لم يروها بعد! اخبرتني ابنتهم التي تبلغ الخامسة من عمرها انها تنوي ان تصبح رسامة عندما تكبر! حاولوا ابعادي ليغطوا أجسادهم الصغيرة، انحنيت لهم لأقبل جبهاتهم تبعاً، عدت للوراء وانا اضع يدي على فمي، لا جوى ليس الان وقت الانهيار. نقلت بصري تجاه الدفعة الجديدة التي اخرجوها من البحر، كانت امرأتان، ورجل مازال على قيد الحياة. بقيت بجانب نجمة امسك يدها، ارجوها لتصحو، احتاج وجودها، احتاج لأحد بجانبي، أصبحنا في منتصف النهار ولم يجدوا احداً من عائلتي! عاد القارب بنا للبر وانا لم اعد كما كنت، بقيت روحي في البحر مع جدتي وأخي. نقلوا فوراً نجمة مع الحالات الأخرى للمشفى اضطررت لمرافقتها بدلا من انتظار أي خبر عقيم عنهم.
نُشر في احدى الصحف التركية خبر هذه الحادثة (لقي 4 أشخاص مصرعهم، في حصيلة أولية، نتيجة غرق قارب مطاطي، اليوم الخميس، بالقرب من سواحل منطقة بودروم، في ولاية موغلا التركية المطلة على بحر إيجة..
وقال مسؤولون في الولاية، إن السلطات تلقّت بلاغا بغرق القارب، ما أدى إلى توجه فرق خفر السواحل للمنطقة، حيث تمكنت من إنقاذ 4 أشخاص، وانتشال 4 جثث.
ولفت المسؤولون أن الناجين والغرقى لم يكونوا يرتدون سترات النجاة. ويعتقد المسؤولون أن القارب كان يقل 31 شخصا من جنسيات العربية..
وما تزال عمليات البحث والإنقاذ متواصلة، للعثور على 23 شخصا ممن كانوا على متن. القارب، ويعتبرون حاليا في عداد المفقودين.).
نُقلت نجمة للمشفى المركزي في إسطنبول، انا طلبت ذلك، كنت وحيدة، احتجت وجوده، تائهة في هذا المكان الغريب، بل وأصبحت مسؤولة عن حياة اختي. وجدت نفسي تائهة في بلد غريب بالكاد اعرف لغته.
وقفت امام المرآة في الحمام الخاص لغرفة نجمة، نظرت لانعكاس صورتي عليها، لتلك البائسة، لم تكن تلك المرة الاولى التي اشاهد بها نفسي بهذا الضعف، لتلك العينين الذابلتين، الوجه الشاحب، لذاك السواد الذي أحاط بعيني. رفعت يدي اتلمس وجهي، امتدت يدي لشعري، امسكت بإحدى خلاصته، بيدي الأخرى تناولت المقص الذي احضرته معي، تدحرجت دمعة وجع من عيني لأقص تلك الخصلة من المنتصف، بدأ بكائي يزداد وشعري يسقط على الأرض ليستلقي عليه بلا روح. وضعت المقص في المغسلة لأسند نفسي بيدي على الحوض، رفعت رأسي لأنظر للمرآة، لشعري الذي بات يلامس رقبتي، هذه ليست جوى، جوى قد غرقت في البحر، تلك الساذجة التي كانت تبتسم رغم ما يصيبها من وجع ماتت. وضعت يداي علي وجهي لأخبي ضعفي، جلست على ارض الحمام الباردة، كان البكاء مختلفاً، ابكي لصعفي، لأختي، لحظي، لغربتي، لفقداني عائلتي ولوحدتي. لقد تعبت من تصنع القوة، تعبت من إخفاء الامي، من رسم ابتسامات كاذبة، من تحمل المسؤولية.
ضممت ساقي لصدري، احتضن نفسي، احتاج لوجود أحدهم بجانبي، احتاج لأن اُغمض عيني ليعود كل شيء لسابق عهده، حتى ان عدنا لذاك الوقت الذي يضربنا ابي به سأوافق، كان لي بيت حينها، لي فراش يأويني عندما أحزن لا مشردة بين كراسي الانتظار في المشفى. كان لنا جيران وأصدقاء. نهضت من مكاني لأخرج من الحمام، ألقيت نظرة أخيرة على نجمة لأخرج من غرفتها حاملة معطفي، خرجت من المشفى لأستقل احدى سيارات الأجرة، كان الجو ممطراً، كانت المدينة تبكي، او ربما هذا ما شعرت به، السنا نرى الأشياء بقلوبنا؟ قلبي كان حزيناً حينها، بل بائساً، لم أستطع ان أرى أي مظاهر للبهجة في الطرقات، اثناء توقف السيارة في احدى الإشارات الضوئية، كانت عيني تحدق بالعابرين، بضحكاتهم، أتساءل كيف يمكنهم الضحك هكذا؟ أحسدهم لأن حياتهم ما تزال كما هي، لهم منزل، اسرة، وطن، ماضي، ومستقبل. وصلت لوجهتي، بقيت امام المبنى تحت المطر اراقبه، حتى بيته هذا اشعر بغربة تجاهه. صعدت الدرجات بتثاقل، افكر ما الذي سأجيبه ان سألني ماذا اصابنا؟ هل يسهل على المرء قول انه فقد عائلته، ارواحهم معلقة في السماء، ماتوا حتى بدون ان يصبح لهم قبر كسائر الموتى.
توقفت امام بابه التقط انفاسي، طرقت الباب لأمسح دموعي، تمنيت لوهلة ان لا يكون موجوداً، لكنه كالمعتاد امنياتي لا تُجاب. فتح الباب فتوقف مصدوماً، رشمت كثيراً لأمنع دموعي من الانهمار: لا تسألني عن شيء.
وجدته باندفاع يدفن وجهي بصدره، احطته ذراعي لألامس شهره، اعتصرت قميصه لأبكي، انتحبت: ماتوا، غرقوا، لم يبق، سوى نجمة في،
رفعت رأسي لأكمل: في غيبوبة.
مسح على شعري: ششششش.
برفق أحاط بكتفي ليدخلني للداخل، اوقفني ليتفحصني بينما انا هادئة، خلع عني معطفي وهو يقول: لقد تبللتِ بالكامل.
وضعه جانباً، امسك بيدي ليجلسني على كرسي منتفخ من القطن، جثى على كربيته ليأخذ قدمي بين جحره، خلع عني حذائي، نهض ليحضر أشياء بينما انا بيت باردة كبرودة يداي اللتان ترتعشان دون ان القي لها أي اهتمام. اتى ببطانية من الصوف لف جسدي بها، فرك يدي بيديه، قلت بصعوبة: اريد ان انام.
نهضت لأسير تجاه السرير، استلقيت عليه لأشد الغطاء علي اكثر، ثنيت ساقي تجاه صدري، اقترب هو ليجلس بجانبي، مسح بكفيه على وجهي، سالت دموعي بهدوء كهدوئي، انحني الي ليقبل جبيني هامشاً: انا بجانبكِ.
لم احرك ساكناً، استلقى بجانبي، وجهه قريب عند وجهي، لكنني لم اكن معقه، كنت غارقة في البحر، كل ليلة عندما استلقي أتذكر ما حدث، ما زلت اشعر بالماء وهو يدفعني، اشعر بالاختناق، صراخ الجميع لا يزال عالقاً في اذني يأبى تركي. وضعت يداي على اذناي لأغمض عيني بقوة: صوت صراخ الأطفال وهم يغرقون لا يفارقني.
وضع يده على اذناي ليؤكد لي: اشعر بما تشعرين، صدقيني.
نهض من مكانه، بقيت انا اغلق اذناي وجسدي كله يرتعش، كفوا عن الصراخ، اتى حاملاً هاتفه بقرب اذني قد قام بتشغيل القران: كنتِ ستفعلين هكذا ان كنت مكانكِ.
هو حتي لا يريد الاعتراف بالله كيف يحضر لي القران لأستمع له لأنسى المي؟ قربه مني لأزداد بكاءً عند سماعي له، بكيت طويلاً مع انبعاث صوت عبد الباسط حتى غفوت.
استيقظت صباحاً، شعرت انني ما زلت على سريره بالسرير، كان مريحاً ودافئاً للغاية، رفعت رأسي قليلاً لأنهض، عيناي كانتا منتفختان للغاية، بالكاد استطيع النظر بهما. كان هو جالساً في الشرفة، حاولت النهوض لكنه التفت ورأني، اتى ليجلس علي السرير بجانبي، بطرف سبابته لامس عيني اغمضتها بألم، طمئنني: ستصبح بخير عليكِ فقط اخذ قسط من الراحة.
- لا، سأعود للمشفى.
- الا تقيمين في مكان ما؟
حركت رأسي نافية، أكملت: لا يمكنني الذهاب لمكان اخر وترك نجمة.
- ستقيمين عندي.
نهضت من مكاني: لن افعل، انا سأتحسن، بعدها سأحاول البحث عن عمل، لا اعلم كم ستدوم فترة الغيوبة تلك.
نهض ليقف امامي: ما الذي حدث لكِ؟ منذ متى وانتِ تضعين بيننا حواجز؟
مسحت وجهي بكفي لأعلق: انا لست ملزمة منك، لا تربط حياتك بي، بمشاكلي، بمستقبلي المجهول، لم اعد اصلح لأي شيء الا ترى!
اقترب مني ليمسك بذراعي بنعومة: انا أرى انكِ تحتاجين لأحد بجانبكِ، علي ان ابٍقى معكِ.
بحدة قلت له: ماذا تريد مني؟ هاه؟ تتأمل ان نتزوج؟ لا يا عزيزي لن نفعل، ان استيقظت اختي لن اتركها بمفردها واُسس حياة بل سأفني حياتي لأجلها،
عدت للبكاء بدموع جافة: كفاني انانية.
حاول تهدئتي: لن نتزوج، حسناً، لا تفكري بشيء الان سوى ان نكون معاً، هذا بيتكِ، وانا عائلتكِ كلها، بل وطنكِ.