الفصل الخامس والعشرون

2.1K 88 6
                                    

روح

٩ سبتمبر ٢٠١٦

في صباح لا يشبه أي صباح مر علينا، استيقظنا لن لنجد شيء غير عادي، صراخ ملأ منزلنا، صراخ يصدر من فم واحد لا غير، ببرود خرجت من غرفتي لأسير تجاه ذاك المصدر، رأيت اختي وأخي يقفان امام باب غرفة امي وابي، نظرت لعينان اختي، كانت تائهة، باردة، بينما اخي الصغير يبكي يحاوط جذعها ويدفن رأسه في بطنها، اقتربت أكثر لأري امي تجلس عند السرير تبكي وتلطم وجهها بينما جسد اعرفه تمام المعرفة تم تغطيته بالفراش، جدتي تقف خلفها تمسح على كتف ابنتها، كان ابي راقداً! جثة هامدة لا يصدر منها صوت مرتفع ولا كلام بذيء، صمت كما لم نره في حياته بهذا الصمت، المصيبة لم تكن في موته، بل المصيبة أصبحت فينا، لم نبكي كأمي، لم نصرخ، وكأن جثته لا تعنينا، وكأن ما نشاهده امامنا مشهد في مسلسل تلفزيوني نتابعه، ألهذه الدرجة قسينا؟ هو من جعلنا احجار، مات حتى قبل ان يعتذر منا، او يخبرنا ولو لمرة واحدة انه قد احبنا، لم يزرع بنا حب يجعلنا ندعو له في الصلوات، كنا ندعو ان يزيل الله المصائب من على رؤوسنا فمات ابي، فاتضح ان دعائنا قد استجيب.
مات ابي وتركنا، لكن اثاره بداخلنا لم تتركنا، الألم، الذكريات والحقد لم يتركنا. وامي هي ذاتها بقيت تلك المرأة التي تخاف كلام الناس قبل الخوف علينا، بل أصبحت أسوأ، ظننا ان اهم مشكلة تعيق مجرى حياتنا قد تبخرت، لكن المشاكل قد بدأت، أولها امي التي باتت مسؤولة عن فتاتين سيدنسان سمعتها في الأرض، بدأ الامر في العزاء، وبختنا لأننا لم نبكي، لأن كلينا باردتان، كيف سنستقبل الناس بهذه الوجوه الباردة؟ ما الذي سيقولونه عنا؟ اليس من المفترض ان يأتي الناس للعزاء ليتذكروا الاخرة، الموت، يرون ماحل على الاخرين من فقد ويتعلموا؟ ام انهم يأتون ليتفصحوا مدى الحزن الذي نشعر به. رفضت الخروج للناس، بت أكرههم وأكره مظاهرهم، بل كرهت حتى امي التي لم تسألنا لم نحن باردتان؟ لم تسأل مقدار الألم الذي خلفه داخلنا لنصبح هكذا؟ تركت لهم العالم واتخذت سريري كعالم لي كالعادة.
امي التي كان صوتها مختبئ داخل تلك الحنجرة، باتت الان تصرخ علينا، توبخنا، وكأن روح ابي تلبستها، تحاسبنا، بل وتشتمنا، صراخها حل مكان صوت صراخ ابي، اعتادت جدران هذا المنزل على الصوت المرتفع، الاوامر، والنهي عن كل شيء. هكذا هم الضعفاء عندها يجدون فرصتهم، يتجبرون على من هم أضعف، يرون غرورهم بالصراخ، بالصوت العالي، هكذا احكمت قبضتها علينا، لتعاقبنا على سنوات قضتها في الخضوع، لتجعل منا عبيداً لها، بل وتطور الامر لتعرض منزلنا للبيع، بحجة انه من الصعب ان تربينا في هذا المجتمع، لا يجب ان نعيش نساء بمفردنا، السنة الناس ستطاردنا، الى ان اقتنعت بإحدى أفكار جاراتنا، وهي الهجرة، ان نهاجر لتركيا ومن هناك نُبحر لليونان، بعدها نقضي حياتنا فارين لحين وصولنا لإحدى الدول التي تمنحنا اللجوء.











محمد

الحاضر

طلبت رؤيتي الدكتورة نيولفر، كانت هي في مطعم المصح، تتحدث مع مدير المطعم، رأتني من بعيد فأبتسمت الي سرت لأجلس على طاولة قريبة على النافذة، كانت مخصصة لفردان، انتهت هي من حديثنا لتقترب وتسحب كرسيها الذي يقابلني، ابتسمت لها فعلقت: تبدو بأفضل حالاتك.
اجبتها بحماس: بالطبع، روح تتحسن.
وضعت مرفقها علي الطاولة لتضحك قائلة: روح! ستبقى تناديها بهذا الاسم؟
اجبتها بتأكيد: بالطبع، هي لم ترغب ان اناديها باسمها الحقيقي، روح اسم رائع.
ضيقت عيناها لتقل وكآنها تريد الايقاع بي: بالمناسبة، ما الذي يحدث لك؟
بلعت ريقي لأسألها بشك: ماذا؟
اشارت الي لتذكرني قائلة: انت طبيب، تعلم جيداً انه لا يجب ان يكن الطبيب أي مشاعر تجاه الحالة.
رفعت قليلاً نظارتي الطبية على انفي لتعتدل، مسحت على انفي قائلاً: ههه، بالطبع لا يوجد شيء.
شبك اصابعها ببعضهما واسندت ذقنها على اصابعها: لا أرى ذلك، ما اراه أنك تمسك بيداها طوال الوقت، من يراكما يظن انكما عاشقان.
اتسعت عيناي لأخلع نظارتي، نظرت للنافذة بارتباك، شعرت ان قطرات العرق تتجمع على جبيني، عادت هي بظهرها للوراء قلت وانا اتحاشى النظر اليها: هي مجرد حالة، ثم انها تثق بي، التواصل الحسي مهم بيننا.
قاطعتني: لكنها صغيرة، انت تمنحها مشاعر هي بحاجة لها في هذا الوقت.
اعترضت: لا انا، انا، مم أحاول ان اساعدها، شفاؤها يهمني اهم أي شيء.
ثنت ذراعيها لصدرها قائلة: انا فقط احذرك، ضع حدود لما بينكما، وحاول ان تفصل بين مشاعرك وعملك.
نهضت مكانها بينما انا تأففت لأمسح بيدي على شعري، علقت قبل رحيلها: حذارِ والا سأحول حالتها لطبيب اخر.
نهضت من مكاني فوراً لأقول: لا، لا يمكن، ستسوء حالتها.
قالت بصرامة: اذن افعل ما طلبته منك.
جلست مرة أخرى على الكرسي لأمسح وجهي بجزع، ثبت رأسي بين يداي لأتحدث مع نفسي: محمد هذه حالة، انت متعاطف معها لأنها ابنة بلدك، لا شيء أكثر من ذلك.










جوى


٢٠ أكتوبر ٢٠١٦

رغم اعتراضي على فكرة السفر، رغم انفعالاتي، الا انني وجدت امي لا تبالي لرأيي، وجدتها مستبدة، خليفة لأبي، تريد الرحيل والهرب بنا بعيداً عن الجميع، اخبرتنا ان يصعب تربية فتاتان في وطن كهذا بمفردنا، تحاول اقتلاع جذوري من هذا البلد، تحاول اخراجي من المياه التي خُلقت بها، بمساعدة اقاربنا قامت ببيع منزلنا، كيف يمكنهم بيع أماكن تحمل ذاكرة أطول منا، الم يكفهم بيت جدي وحديقته تلك التي ذهبت للغرباء؟ كانت امي تقودنا كخراف، تفرض سيطرتها علينا، تحاول ان تتذوق طعم السلطة، نسيت كيف يكون شعور العبد، قمنا بالحجز على الطيران العراقي المتجه لإسطنبول، كان على كل فرد منا ان يحزم امتعته، ثيابه، ذكرياته، دموعه، وعالمه ويطويها في حقيبة على شرط ان لا يكون وزنها ثقيل والا سندفع غرامة! ابتسمت بسخرية وانا اُلقي نظرة أخيرة على غرفتي، ماذا يا جوى ما الأسوأ؟ لقد ودعنا الاغلى من تلك الجدران وقطع الأثاث! حزينة انتِ على مكان بينما هناك اشخاص دفنوا تحت التراب، واخرين هاجروا ولن يعودوا، هل سيفوق حزنكِ تلك الاحزان؟ نظرت لسريري الذي ضمني لأعوام، وسادتي تلك التي ثملت بدموعي، غطائي الذي خنقت به نفسي فترات، مرآتي الصديقة المخلصة، كل قطعة اثاث تضم بداخلها سر، تحمل ذكرى. خرجت من الغرفة لأسير تجاه غرفة جدتي، ذاك السرير الذي نقلته من منزلها بعد موت جدي، الذي حملهما لأكثر من أربعة عقود، مكتبة جدي التي تقف في الزاوية، ستتغطى تلك الكتب بالتراب، تُنسى، او ربما يهتم أحد بها فيأويها. نزلت للأسفل، دخلت لغرفة المعيشة، هنا كنا نتشاجر، نضحك، نصرخ، ونرقص، هذه الجدران تحمل كم هائل من الحكايات لتسردها للساكنين الجدد، ماذا لو كان للجدران فم تتحدث به، ماذا ان افرغت ما في جوفها عن الساكنين، ماذا كانت ستخبرهم عني؟
خرجت للخارج كان الجميع يضع الحقائب داخل السيارة التي ستقلنا للمطار، رأيت جدتي تبكي ناظرة للمنزل، غطت فمها وانفها بكفها تحبس شهقاتها، نظرت للحديقة، للمزروعات التي ستذبل، للنخلة التي تسكن حديقتنا، اتذكرها منذ ان كانت فسيلة، كبرت امامنا وأصبحت فارعة الطول، خرجت للشارع، كان هناك أولاد يتجهون للمدارس، ورجال لعلمهم، في هذا الشارع لعبت، ضحك ودرت، وقفت انظر للمنزل، نعم اعترف انني كنت اعتبره جحيماً، لكن حتى الجحيم في وطني جنة، من قال انني سأجد الدفء والانتماء بعيداً عن منزلي هذا؟ تساءلت ان كنت سأرى هذا المنزل مجدداً، هل سأعود في يوم لهذا المكان بل وان عدت هل سأكون انا ذات الشخص عند تركي له؟ المشكلة اننا نحن فقط من نتغير، تبقى الاماكن ذاتها، تحمل ذكرياتنا، رائحتها، تبقى وفية لنا، لكن ما كنا نعيشه فيها يتغير عند عودتنا لها، لا ضحكاتنا، ولا دموعنا، المشكلة بنا ليس في الاماكن.
انطلقت بنا السيارة متجهة لمطار بغداد الدولي، قبل كل شارع عبرنا به، ضممت الهواء، سجدت للسماء، للضجة، للزحام، لصوت الباعة، للنخيل، لدجلة، للمساجد والكنائس. هل سأعود في يوم لهذه المدينة ام انني سأتعفن بعيداً عنها؟ وجدت دموعي تغسل وجهي وانا أرى بغداد حزينة، ماذا لو عند وصولنا للمطار تغير امي رأييها وتخبرنا اننا سنعود للبيت، سنبقى في الوطن، وان مُتنا على ارضه فلا بأس بذلك، لكنني على معرفة ان لا شيء سيحدث من هذا القبيل، كما تخيلت عندما حان موعد طائرة عبد الله، صورت لنفسي مشهداً من احد الأفلام عندها يعلق البطل فكرة السفر من رأسه قبل ركوبه الطائرة ويعود ليقبل حبيبته، ويُكتب على الشاشة النهاية، لكن لم يحدث أي شيء في ذاك اليوم، بل راقبت السماء لأرى أي طائرة حملت حبيبي على ظهرها، بل وبجنون ذهب لمنزله بعد ساعة من موعد اقلاع الطائرة لأن مخيلتي كانت يومها تسع الكون بأكمله، كان المنزل مُغلق، يبكي فجلست على عتبته وبكينا معاً، ببساطة، وها انا اسافر ببساطة!
ابتسمت بسخرية لفكرة سخيفة ايضاً، ماذا لو ان ابي مات قبل سفره؟ كنت سأكون زوجته الان، كنت سأبقى هنا. (لو) أكره هذه الكلمة اللعينة.
كنت أكره امي قبل وفاة ابي، والان بت أكرهها أكثر، كانت ابتسامتها في المطار تستفزني، ترقص على قبور وفائنا لهذا البلد، تشتمه ونحن مازلنا على اعتابه، لكنني لم أكن املك طاقة لخوض أي شيء معها، جوى لم تعد جوى القديمة، بل انكسرت مراراً حتى فقدت كل ما يُمكن كسره.
كان مقعد الطائرة بالنسبة الي كذلك الكرسي الكهربائي الذي يعدمون به المذنبين، لم اجلس بجانب امي، تركت نجمة تجاورها، جاورت جدتي، كانت يدها تواسيني، وضعت رأسي على كتفها، تجمعت الدموع في عيني وانا اشعر بتحرك عجلات الطائرة، ضحكت وسط بكائي ساخرة: من كان سيصدق اننا سنهاجر هكذا؟
برضا قالت جدتي: احمدي الله على كل شيء، وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
مسحت انفي بمنديل لأعلق: ونعم بالله.
- دعاء المسافر مستجاب، ادعو الله.
ابتسمت بحزن، لقد رح ذاك الرجل الذي كنت اذكر اسمه في كل دعاء، ورحلت معه جميع الامنيات، وان نويت ان ادعو الله ان يسعدني أي سعادة هذه التي تضمني من دونه؟ شدت جدتي على يدي كأنها شعرت بي، قالت لي: الله كبير.
ابتسمت لأقترب واقبل رأسها، فارقت الطائرة الأرض لتحلق في السماء، متجهة لأرض حظيت بوجوده، فرقتنا بغداد، وضمتنا إسطنبول، شتتنا الوطن، وجمعتنا الغربة.
ما هذه الحياة الغريبة!

انتِ مجرتيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن