روح
٢٧ يناير ٢٠١٥
لا اعتقد انني مت على متن ذاك القارب، بل انا فارقت الحياة في هذا التاريخ وفقدت بعدها قدرتي على عد الايام والسنين. صباحا سمعنا استيقظنا على صوت صراخ امي وبكائها الذي أغرق منزلنا، انتفضنا من اسرتنا الدافئة على عجل لنرى أي مصيبة حلت علينا، خرجنا لنجدها تصرخ بكل ما اوتي اليها من قوة وابي امامها صامت شعرت بوخزة تصيب قلبي، هو ذاك الشعور الغريب الذي يخبرنا اننا على وشك سماء خبر سيفتت ارواحنا. جف فمي وانا اسمع شفتاها تحاولان نطق الخبر. لوهلة شعرت انني على علم بما ستخبرنا به، إحساس لامسني وهمس لي ان هناك مكروه قد أصاب جدي، بل لم اُفكر بأحد غيره حتى، اقتربت منها وانا أحاول تكذيب ما ستقوله وانفاسي تثقل أكثر وأكثر: لا. لا تقولي.
لكنها قالت: مات ابي، ابي.
صرخت بها: لاااا، لا يمكن، هذا كذب.
التفت لأختي التي باتت تشبه امي في بكائها لأصرخ عليها: لا، لا تصدقيها جدي بخير.
اقتربت لتحتضنني فدفعتها بعيدا عني وانا اعود للوراء، لا الجميع يكذب جدي لن يرحل ويتركني هكذا فجأة، هو يعلم انني لن استطيع العيش بدونه، هو يعلم بمقدار الألم الذي سيسببه لي بعده، الله أيضا يعلم فكل ليلة اذكر اسمه داعية ان يطيل في عمره اليس كذلك، هبطت على الأرض لأجلس كالقرفصاء وانا اتنفس بسرعة كأنني في سباق، احتضني نفسي وانا ادعو ان يكون كابوس سأستيقظ منه، جدي لن يختفي عن عالمي للابد انا لا استطيع حتى تحمل فكرة العيش بدونه، لا يمكنني ان اكمل ايامي دون سماع صوته، نهضت لأجري بإتجاه غرفتي فالتقطت هاتفي الذي كان يجلس على الطاولة التي تجاور سريري لأتصل به، سيجيبني وسأخبر الجميع انهم كاذبون، سأضحك واخبرهم انني على حق، لكن هاتفه كان مغلقا اعدت المحاولة مرارا حتى أتت اختي تحاول احتوائي فدفعتها وانا اجلس بهدوء على السريري اتصل به بشكل هستيري وتخبرني تلك اللعينة انه خارج عن التغطية .تجمدت الدموع على وجنتي لأقل لأختي: ربما نسي ان يشحن هاتفه، هو ينسى كثيراً.
اقتربت مني تمسك يداي وانا اقاوم وانهار باكية أكثر، ادفعها وانهض ابحث عن شيء عن حل عن مصدر يوقظني من هذا الكابوس، لأعود لهستيريا البكاء، اشعر ان هناك خنجر يغرس في قلبي كل ثانية تمر وهذه الكذبة سارية، تشبثت بفراشي وجررته لصدره وانا اعتصره بقوة واعتصر روحي. بكيت حتى جفت دموعي وهمد جسدي بلا حراك، لا اعلم ان كنت قد نمت او فقدت وعي حينها.
فتحت عيني بألم ورموشي ملتصقة ببعضها يمسك جفناي ببعضهما بقوة لا يقويان على ترك بعضهما، بدأت انفاسي تزداد سرعة وانا افكر انه لربما كان كابوسا لكن جسدي والم عيناي يخبراني انه لم يكن كابوسا على الاطلاق، حاولت رفع رأسي من على الوسادة كان ثقيلا لدرجة لا تصدق، عيناي تحرقانني بشدة يعتصران الألم من الداخل ليخرجاه وكأنه قيح لا دموع، جاهدت لأجلس قليلا وارى اختي تلبس ذاك اللون الأسود اللعين، اقتربت وهي تحاول مساعدتي لأنهض بضعف دفعتها بعيدا عني لأسألها: اين، امي؟
اجابني وقد تفجرت ينابيع دموعها: في العزاء، انه اليوم الثاني له.
اليوم الثاني! لم اره! لم اودعه واتأكد من صحة اكاذيبهم! لم اشم عطره للمرة الأخيرة ولم ار وجهه واقبل عيناه، لم افرك يدياه المتجعدة، لم اُخبره بأنني كنت وما زلت أتنفسه، لا بل كنت اتنفس في وجوده والان أعجز. مسحت انفها بمنديل لتلتقط أنفاسها قائلة: كان يجب ان يدفن فوراً، وضع أحدهم أسفل سيارته قنبلة فأنفجرت اثناء ذهابه لعمله كل صباح.
أي وحشية تلك التي تجعلهم يقتلون رجل كانت الملائكة تغار من طيبته؟ فجروا وطني بأكمله ولم يكتفوا فأخذوا مني اعز ما املك، لم تكفهم المئات التي تموت كل يوم ليزيدوا رقم واحد عليهم، لم هو لست انا؟ لم موته المني أكثر من موتي حتى، نحن لا نموت عندما نفارق الحياة بل نموت عندما يفارقها من كانوا بالنسبة لنا حياة.
جسدي بأكمله كان متخشبا لا يمكنني تحريكه حتى، عيناي منتفختان لحد الانفجار، جسدي يتلوى ورأسي يطرق بمطرقة، ورغم ذلك ذهبت برفقة اختي لبيت جدي.
طوال الطريق وبداخلي امل يخبرني انني عندما اصل لهناك سيفتح هو الباب لي او اجده يسقي الحديقة او انه ذهب ليصلي ويعود بعد قليل، تمنيت لو ان الطريق يصبح أطول لكنه لم يكن كذلك ووصلنا للأسف لمنزله وانا أرى الكثير من السيارات امامه وناس غريبة تدخل للتو وصوت القران صادر من الداخل، بقيت متوقفة عند الباب وعيناي قد جفتا من الدموع تحرقني بشدة وعظامي تصدر أصوات تهشم، دخلت ورأسي يدور وعيني تسبقني باحثة عن وجه واحد، وجه يروي ظمئي يبلل هذا الجفاف الذي اصابني من الداخل، كان السواد يغطي تلك الأجساد المنتشرة في المنزل، وصوت النواح ينتشر في كل زاوية، رائحة بخور ووجوه غريبة، سرت وانا حاملة ثقل رأسي على جسدي الضئيل اتحامل عليه لحين وصولي لمكتبه، دخلته وأقفلت الباب خلفي لأنفجر باكية، ابكي بصوت لا دموع، ابكي وانظر للجدران الحزينة والكتب التي تصرخ تطلب يداه لتصفح اوراقها، وكرسيه يرجوني ويكرر السؤال عنه، وضعت يداي على اذني أحاول اخراسهم جميعا، لا يمكنني التنفس حتى، ماذا افعل لا طبيب يمكنه مساعدتي ولا ساحر يحضر روحه مجددا، لا شيء قادر على تخليصي مما اصابني، احتاجه لدقيقة واحدة احتاج ان يخبرني كيف سأمضي بدونه ؟.. احتاج لمساعدته، رأيت معطفه يحتضن كرسيه نهضت بلهفة كمجنونة اقتربت منه لألتقطه واشم ما تبقى منه، لم يبقى لي منه سوى عطره! رحل وترك الزوايا تبكي.