استغرقت أسيل ثلاثين ثانية بالضبط لتتمكن من تمالك نفسها .. بحيث لا تخذلها ركبتاها فتسقط أرضا .. كانت تشعر بوجوده صاخبا يكاد يعطل حواسها بتأثيره .. لا .. مستحيل .. لا يمكن أن يكون هو .. ليس هنا .. ليس الآن
استدارت ببطء .. ونظرت مصدومة إلى الرجل الواقف عند باب الغرفة المفتوح .. مستندا إلى إطاره بقامته الطويلة والضخمة .. لهثت وهي تنظر إليه بجوع .. إنه هو .. هو بعينه .. مختلف قليلا .. بحلة أنيقة سوداء احتوت جسده القوي بشكل رائع .. مع قميص ناصع البياض بلا ربطة عنق تقيده .. متناقض بأناقته مع الذبذبات الوحشية الصادرة عنه ..
لقد كان هو .. بشعر قصير مشذب بمهارة .. بعيد كل البعد عن شعره الطويل الثائر الذي تذكره .. ولسبب ما .. بدا مخيفا أكثر بمدنيتة مظهره الخادعة .. إذ أنها وحدها تعرف ما تحته من برية ..
لقد كان هو .. بعينيه الزرقاوين اللتين التهمتا قامتها الضئيلة بغضب بارد ..و رمقتاها من رأسها حتى أخمص قدميها حتى ارتعشت كل خلية في جسدها تأثرا .. بملامحه الوحشية الوسامة .. الباردة وكأنها تمارس ضبطا خارقا لمشاعره العاصفة كما مشاعرها .. بابتسامته الصغيرة القاسية .. ابتسامة زلزلت كيانها خوفا و معناها الغاضب يتجلى أمامها بوضوح
لقد كان هو .. الرجل الذي أحبته أكثر من حياتها .. والذي هربت منه قبل سنتين .. تاركة إياه يظنها ميتة .. الرجل الذي لم يفارق قلبها وعقلها لحظة خلال الأشهر الستة وعشرين الماضية .. نعم .. ستة وعشرين شهرا و خمسة أيام بالضبط .. منذ كتبت رسالة الانتحار الزائفة تلك .. ورحلت بعيدا عنه ..
رمشت بعينيها وكأنها تتوقع أن يتبين لها في أي لحظة بأنها تحلم .. همست وهي تستند إلى النافذة ورائها كي تخفي ارتجافها :- أسلان
اختفت ابتسامته ..اعتدل فجأة في وقفته .. مما جعلها ترتد إلى الخلف وقد صفعها شوقها إليه .. شوق جسدي خالص .. شوق مؤلم وحارق .. ذكرها بالمرة التي حرقت بها أصابعها أثناء لعبها بالكبريت عندما كانت في الخامسة من عمرها .. لقد كان الألم شديدا .. إنما لذيذا .. مخيفا .. إنما مسكرا للغاية
قال ببرود :- تذكرين اسمي إذن .. هذا جيد .. للأموات ذاكرة قوية بالإضافة إلى غياب الضمير .. إلى القسوة والخداع .. والتلاعب بالآخرين
همست مجددا بألم :- أسلان
خطا نحوها فأغمضت عينيها للحظة واحدة تغالب دموع الشوق والألم .. هل يدرك إلى أي حد رؤيتها له تؤلمها .. تجرحها وتدمي قلبها .. هل يعرف كيف مرت بها السنوات السابقة ؟ شبه حية .. تاكل وتشرب وتنام .. وقد نسيت كيف تعيش منذ غاب عن حياتها ..
قال بصرامة :- افتحي عينيك وانظري إلي
نفذت أمره على الفور .. نظرت إليه لتجد خطوات قليلة تفصل بينهما .. فانكمشت على نفسها وهي ترتجف .. ملاحظة الطريقة التي تأملها بها .. تأمل كل جزء منها شعرها القصير المصفف بعناية .. ملابسها الفضفاضة البسيطة .. حتى الصندل الخفيف المنخفض الكعبين لم ينجو من تفحصه .. قال أخيرا بجفاف :- ماذا علي أن أقول .. أنت أكثر جمالا مما أذكر .. أهو أحد تأثيرات الموت .. أن يسبغ على صاحبه لمحة ملائكية كاذبة .. يخدع بها الأحياء الفانيين من أمثالي
قالت متوسلة إياه :- أسلان .. أرجوك توقف
اقترب منها اكثر حتى وقف أمامها .. أخذت ترتجف وهي تحس بدفء جسده يحرقها .. بجاذبيته تسحقها بلا رحمة .. لاحظ ردة فعلها .. فقال بهدوء :- إلا أنه لم يغير شيئا من تأثيري عليك .. مازلت ترتعشين في وجودي كالورقة في مهب الريح .. وكأن يوما واحدا لم يمر منذ كنت حية .. تتفجرين حرارة ورغبة بين ذراعي فوق مركبي .. مما يدفعني للتساؤل .. إن كانت ردة فعلك ستكون هي نفسها .. إن لمستك الآن
هزت رأسها يائسة وهي تزداد التصاقا بالزجاج من ورائها .. وهمست :- لا .. أرجوك لا
إلا أن يده امتدت نحوها ببطء متجاهلة اعتراضها وتوسلها إليه .. للحظة .. تصدع قناع البرودة المحيط بوجهه .. لمحة من المشاعر الضارية كست ملامحه .. مزيج من الألم .. والشوق .. واليأس ..
أغمضت عينيها وهي تحس بأصابعه تلمس وجنتها .. تتحرك فوق بشرتها برقة وبطء .. همس بصوت أجش :- مازلت ناعمة ونضرة .. كما اذكرك بالضبط
حبست أنفاسها.. وجسدها يستجيب بلا حول أو قوة .. لحركة أنامله نزولا نحو عنقها .. تتحسس هشاشتها بشغف .. تتوقف عند نبضها المجنون .. وكأنها تتلذذ بمعرفة مدى تأثيره عليها ..
كانت قادرة على سماع خفقات قلبه الصاخبة ... تكاد تلامسها .. فأنت عاجزة .. مما جعله يتمتم بكلمات غير مفهومة .. ويحني رأسه نحوها .. مقبلا إياها بشغف ..
تشبثت به مصدومة بهجومه المفاجئ .. انتفض جسدها بردة فعل لا إرادية عندما جذبتها يداه إليه لتلتصق به وكأنها جزء من جسده .. للحظات طويلة لم تفكر .. تركت نفسها تستسلم لشوقها الشديد .. وجزء منها ما يزال عاجز حتى عن تصديق وجوده هنا .. بين ذراعيها .. يقبلها ويلمسها بشغف .. إنها تحلم .. لابد أنها تحلم .. إنه كابوس آخر من تلك التي تبدأ دائما بهذه الطريقة .. تراه أمامها .. يحتضنها ويقبلها .. يخبرها مرارا بأنه يحبها .. قبل أن تنتزعها أيد خفية بعيدا عنه .. فتجد نفسها تغرق وتغرق في لجة مظلمة .. وحيدة بدونه .. تتخبط باحثة عنه بيأس .. لتستيقظ صارخة باسمه .. باكية بمرارة وكأنها قد فارقته البارحة
أحاطت عنقه بذراعيها .. شدته نحوها أكثر فارتعش جسده الضخم بين يديها .. همس بين شفتيها :- كيف استطعت فعل هذا بي .. كيف امتلكت القسوة لذبحي بهذه الطريقة ؟ سنتان.. سنتان أيتها الظالمة .. أبحث عنك في كل وجه أراه .. في كل ذكرى .. أراك مع كل موجة يصفع فيها البحر الشاطئ .. أترقب لون عينيك بين زرقتها .. ألامس بقاياك من خلال زبدها .. كيف استطعت الرحيل ؟ كيف ؟
تحركت يده نحو شعرها تتخلل نعومته بشغف .. نظر إلى وجهها قائلا بخشونة :- لن أسمح لك بالرحيل مجددا .. أتفهمين ؟ أنت لي ... لي وحدي
ضاع عقلها عندما قبلها مجددا .. فلم تشعر بسترتها تنزلق من فوق كتفيها على الأرض .. وعندما بدأت يداه تتحركان فوقها بتملك وحشي .. انتفضت هاتفة وقد أخافها هجومه :- أسلان .. توقف .. توقف
زمجر قائلا :- لا.. ليس هذه المرة أسيل .. ليس هذه المرة
دفعته عنها وقد أفقدها الذعر صوابها .. تمكنت من مفاجئته والخلاص من يديه فاندفعت راكضة نحو الباب دون أن تصل إليه .. إذ سرعان ما سبقها مغلقا إياه .. ومحاصرا إياها داخل الغرفة .. تراجعت وهي تحدق إليه يراقبها بابتسامة مخيفة .. وهو يقول بنعومة :- أتهربين مجددا يا أسيل ؟؟ كما في كل مرة .. ترمين الطعم لي .. وتسحبين السنارة .. ثم ترمينني إلى البحر مجددا كالسمكة عديمة النفع .. لا أظنني أرغب بأن أكون مادة لسخريتك انت وخالك بعد الآن
هتفت باضطراب وهي تبتعد عنه ما استطاعت داخل الغرفة الفسيحة :- ما الذي .. ما الذي تقوله ؟
اعتدل وهو يسير نحوها قائلا :- هل ضحكت كثيرا أنت وفريد أثناء تخطيطكما لهذه المسرحية التراجيدية الصغيرة حول موتك غرقا ؟؟؟ أعرف بأنه متورط في الأمر إذ ما كنت لتتمكني من تنفيذها بدونه .. أراهن بأنه هو صاحب الفكرة ذلك العجوز الحقير.. لقد وجد فيها فرصة للانتقام مني وقد رأى فيك نقطة ضعف لي .. ما الذي قاله بالضبط ؟ لم لا نلقن ذلك الفتى المغرور درسا ونعلمه كيف تجري الرياح أحيانا بما لا تشتهي السفن ؟؟
قالت بتوتر :- لم يحدث الأمر بهذه الطريقة
أمال رأسه وهو ينظر إليها بغضب بارد .. بتهكم مرير :- كيف حدث إذن أسيل .. أنا أنتظر تفسيرك
هزت رأسها وهي تزدري لعابها قائلة :- أنت لم تترك لي خيارا آخر أسلان .. لقد حاصرتني وزايدت على مبادئي .. لقد أردتني بغض النظر عما أردته أنا
زمجر قائلا وهو يهب في وجهها :- لقد أردتني بدورك وإياك أن تكذبي
أغمضت عينيها للحظات قليلة قبل أن تفتحهما وتنظر إلى وجهه الوسيم الغاضب :- ربما فعلت .. ربما أردتك .. إلا أن هذا لا يعني أن أستجيب لك.. أن أمنحك ما تريد .. لم أرغب بأن أكون لعبة بين يديك .. أنت أردتني فقط لأنني كنت محرمة عليك .. وكنت لتزدريني فور حصولك علي .. رغم ما شعرت به نحوك .. أنا لم أثق بك قط أسلان .. لأنك ما أحببتني يوما .. لأنك ما كنت لتخلص لي أبدا .. كنت لتخذلني كما خذلت دائما الجميع من حولك .. ربما أحببتك .. إلا أنني ما أردت أن أكون جزءا من ممتلكاتك .. وما زلت أرفض أن أكون
نظر إليها ببرود شديد بينما كانت تتكلم ... كانت تعرف بأنها لم تنجح أبدا بالتخفيف من غضبه .. ربما أثارته أكثر برفضها الصريح .. لاحت منها نظرة سريعة نحو باب الحمام المفتوح .. هل تستطيع الوصول إليه وإقفاله على نفسها قبل أن يمسك بها
قال أسلان بهدوء مخيف :- من المؤسف أن يذهب جهدك وجهد خالك هباءا .. لأنك لن ترحلي مجددا أسيل .. أنت لي منذ رأيتك قبل سنوات .. ولي وأنا أراك مجددا الآن .. أنت ستكونين من الآن فصاعدا بالضبط كما خشيت أن تكوني ... أنت ستكونين دميتي أسيل .. ملكيتي الخاصة .. وسأتلذذ بشدة وأنا أرى نظرة خالك العزيز وهو يراك بين ذراعي .. امرأتي .. ولي .. رغما عن أنفه
هزت رأسها محاولة الحفاظ على هدوئها :- لن تستطيع إرغامي على فعل ما تريد أسلان .. أنا إنسانة بإرادة مستقلة .. وإن كنت قد تكبدت عناء التظاهر بالموت كي أبتعد بك .. فحري بك أن تدرك إلى أي حد أرفضك
قال بهدوء :- لن يستمر رفضك عندما أنزع منك خياراتك يا أسيل
فهمت بالضبط ما قصده بكلامه .. فهمت وهي ترى التصميم على وجهه .. والإصرار في نظرة عينيه اللامعتين بوحشية .. صرخت بانفعال :- ما تفكر به لن يحدث أسلان .. أنا لست وحيدة هنا .. لدي رفقة وستعود بعد قليل
قال بابتسامة ذئبية جمدت الدماء في عروقها :- أتتحدثين عن إيمان ؟؟؟ إنها ظريفة جدا .. صحيح ؟؟؟ تعمل لدي منذ عام واحد .. منذ افتتحت مكتبا للشركة هنا في دبي .. ومن أهم مزاياها أنها تطيع الأوامر بلا جدال .. وقد طلبت منها منذ دقائق أن تذهب إلى بيتها إذ أنني سأتولى الأمر من هنا .. وسأتحدث بنفسي مع مصممة الديكور التي استأجرتها لتزين منزلي الجديد
.. منزله !!! ... تعمل لديه ؟؟... هتفت ذاهلة :- هل .. هل خططت أنت لمجيئي إلى هنا ؟
اختفت ابتسامته وهو يقول بجفاف :- أخطط لهذه اللحظة منذ رأيتك صدفة تمشين في الشارع .. كنت في طريقي إلى المطار للعودة إلى استانبول .. عندما رأيتك ..كان الامر أشبه بالصفعة القاسية لي .. أن أرى شخصا ظننته ميتا يمشي بين الناس .. كنت قد اختفيت خلال لحظات .. مما جعلني أشك للحظة بما رأيت .. إلا أنه لم يمنعني من القيام بتحرياتي .. تلك التي كان علي القيام بها قبل سنتين يا أسيل .. عندما صفعني خالك بخبر موتك .. كان علي أن أعرف بأنه قادر على فعل أي شيء لتعذيبي .. حتى اختلاق موت مزيف لابنة أخته الغالية .. وقتلها أمام جميع أفراد عائلته ..
سار نحوها وهو يزيح سترته عن كتفيه لتسقط أرضا أمام نظراتها المذعورة ... ومد يده يحل أزرار قميصه ببطء مستفز فتراجعت غريزيا وهي ترمق باب الحمام بطرف عينها ... أكمل ببرود :- لم يكن صعبا أن أعرف من خلال معارفي الكثر بأنك قد غادرت تركيا قبل سنتين من مطار عنتاب في طريقك إلى حلب .. لم يكن صعبا أيضا أن أتتبع طريق شقيقتك وزوجها وأعرف كل شيء عنهما وعن قريبتهما الشابة .. التي تعمل في مكتب للهندسة الداخلية ... لم يكن صعبا أيضا استدراجك إلى هنا .. فأنت لن تشكي أبدا بتورطي في العمل المجزي الذي طرق بابك فجأة بلا مقدمات .. فأنت ميتة بالنسبة إلي .. صحيح ؟ ربما بعد ما سيحدث الآن .. ستتمنين لو أنك كنت ميتة بالفعل يا أسيل
أنت تقرأ
في محراب العشق
Romanceاحمل قلبي في حقيبة وأرحل . . أقف في مفترق طرق . . البحر من امامي . . وهاوية حب لا قرار لها من ورائي . . خياران أحلاهما مر . . هل أتبع قلبي فأخسركل شيء ؟ . . أم عقلي وضميري فيخسر كل من أحب و حبيبتي جيهان . . أستودعك . . فأذني لي بالرحيل . . إن قابلته...