حبيبتي جهان :-
لا تستطيعين أبدا اتهامي بالتأخر في الكتابة إليك .. بالكاد بدلت ملابسي وتعرفت إلى محيطي الجديد حتى أخرجت حاسوبي المحمول .. وبدأت في كتابة رسالتي إليك .. أمامي بالضبط نصف ساعة قبل أن تعاود أرزو هجومها فتنتزعني من عزلتي .. والتي أصدقك القول في أنني غير متمسكة بها إطلاقا .. منذ وطأت قدماي مطار أتاتورك الدولي ... واستنشاقي هواء استانبول النقي .. انتابتني حيوية لم أشعر بها منذ فترة طويلة .. الحزن والوحدة الذين أحسست بهما منذ سافرت برفقة زوجك إلى دبي ... التعاسة التي لم تفارقني خلال إقامتي المؤقتة في منزل عمتي حتى أنهيت تخرجي ... اختفت فجأة ... أشعر الآن بأنني إنسانة جديدة ... لا ... كلمة جديدة تبدو خاطئة تماما .. إذ أنني أشعر بعودة أسيل التي كنتها سابقا ... هل تذكرينها يا جهان ؟ .. تلك التي كانت تثير جنونك بثرثرتها التي لا تنتهي .. والتي كانت لا تتوقف عن ترك رسومها لك في كل مكان بين أغراضك .. أشك بأنك قد افتقدتها منذ رحلت يوم وفاة والدينا ... حسنا .. لقد عادت من جديد فور أن نزلت من الطائرة و أنهيت أوراقي وخرجت مع حقيبتي الكبيرتين المحملتين بأهم أغراضي لقضاء الصيف في منزل الخال فريد .. لم يتعكر مزاجي حتى وأنا أجلس لأكثر من ساعة في انتظار من يأتي لأخذي .. لقد أخذت وقتي جالسة على أحد المقاعد في صالة الانتظار الكبيرة .. أحدق بالناس من حولي بلا ملل .. بينما أفكر بجهد في مستقبلي القادم .. أنت تعرفين جيدا ما قصده الخال فريد من دعوتي إلى استانبول لهذا الصيف ... تعرفين بأنه يأمل أن أتخذ قرارا حاسما حول البقاء هنا في تركيا وبناء مستقبلي إلى جوار عائلته بعد وفاة والدينا في ذلك الحادث المشئوم .. خاصة وأن عمتي نسيبة هي القريبة الوحيدة التي بقيت لنا في حلب ... ومن الواضح أن أرزو لم تخفي عنه امتعاضي من فكرة بقائي لقضائي دقيقة واحدة أطول مما يجب في منزلها وإلى جانب عائلتها الكريهة .. كما ذكرت في آخر رسائلي إليها .. أتخيلك تصرخين في هذه اللحظة بينما ينتفض زوجك إياد الجالس إلى جانبك مذعورا من صراخك المفاجئ .. وأنت تتوعدينني بالويل والثبور إن فكرت ولو للحظة بالبقاء هنا ... لا تقلقي يا أغلى الناس ... لن أبقى لحظة واحدة إضافية في استانبول فور انتهاء أشهر الصيف ... لقد تحدثنا سابقا .. و أنا أرغب حقا بالقدوم إلى دبي والعيش معك ومع إياد هناك .. لقد وعدني زوجك بالبحث عن وظيفة مناسبة لي تناسب قدراتي .. وقد أجد لنفسي سكنا في مكان ما مع شريكات مناسبات ... هلا توقفت عن الصراخ للحظة ؟؟؟ سنتحدث في أمر السكن فور أن آتي لزيارتك مع بداية الخريف .. يمكننا أن نتشاجر في خلوة بدون أن نصم إياد المسكين بأصواتنا .. يا الله كم أشتاق إلى شجاراتنا القديمة ... إلى نظرة الغضب النارية في عينيك الحمراوين ... أشتاق إليك يا جهان .. وأشتاق إلى والدينا .. إلى حنان أمي وعصبيتها .. إلى ضحكة ابي .. والطريقة التي كان يعاقبنا فيها عندما كنا نخطئ بصفعنا على مؤخرة أعناقنا .. آسفة لأنني أثير شجنك بكلماتي .. ليس عليك أن تقلقي علي الآن يا جهان ... أنا سعيدة حقا في هذه اللحظة .. سعيدة إلى حد الرغبة بالبكاء ... لم تتغير استانبول كثيرا منذ زيارتنا الأخيرة برفقة أمنا قبل سبع سنوات .. لقد استمتعت كثيرا بتأمل الطرقات والمباني وحتى الناس هنا في طريقي إلى بيت الخال فريد ... حتى وصمت سائقي يكاد يثقب أذني طوال الطريق .. آه .. خمني من أرسل خالي لاستقبالي في المطار .. لن تصدقي على الإطلاق .. في الواقع .. خالي لم يرسله أبدا .. هو من تبرع بالمرور لأخذي بسبب اضطرار الخال فريد للذهاب في مهمة أرسله بها .. نعم .. تخمينك في محله .. أكاد أرى نظرة الذهول في عينيك .. لقد جاء أسلان دار أوغلو بنفسه لاصطحابي من المطار .. في البداية لم أعرفه .. إلا أنني تذكرته بعد لحظات من تحديقي في وجهه الوسيم .. وهل استطيع أن أنسى المرة الوحيدة التي رأيته بها في زيارتنا الأخيرة ؟ .. لقد بدا مختلفا قليلا .. أكثر نضجا وقد بلغ الثلاثين .. بدا لي أطول قامة وأكثر ضخامة عما أذكر .. إلا أنه كان هو .. بشعره الطويل الذي التفت خصلاته حول عنقه الأسمر .. وعينيه الزرقاوين النافدتي الصبر .. وملامحه المثالية .. لم يكن يرتدي الجينز كما في المرة الوحيدة التي رأيته بها عندما كنت في الخامسة عشرة .. يوم جذبتني أرزو من ذراعي .. ودعتني لاستراق النظر عبر باب غرفة مكتب الخال فريد الموارب .. نحو ابن رئيسه في العمل .. الشاب الوسيم الساحر ... وقد جاء في زيارة عمل .. هذه المرة كان يرتدي بذلة كاملة .. وكأنه قد خرج لتوه من اجتماع عمل مهم .. أخذ ينظر إلى ساعته عدة مرات وهو ينظر حوله قبل أن يتجه إلى مكتب الاستعلامات .. راقبته بفضول دون أن أدرك بأنه قد جاء لاصطحابي حتى دوى اسمي عاليا عبر مكبر الصوت في استدعاء لي .. فتنهدت ونهضت إليه جارة حقيبتي الثقيلتين كمن يتجه ليلاقي مصيره ... بحق الله يا جهان ... لا تحدقي بكلماتي كالمجنونة .. الرجل متزوج .. ومنذ خمس سنوات كما سبق وأخبرتني أرزو التي كانت دائما مذهولة بحبها اليائس له .. كل ما في الأمر أن مرافقة رجل بوسامته كفيل بدغدغة غرور أي امرأة مهما كانت راجحة العقل .. وأنا كما تعلمين ... لست راجحة العقل على الإطلاق .. ألقى نحوي نظرة واحدة بعد أن تنحنحت من ورائه .. نظرة أذابت عظامي من عينيه الزرقاوين التين ضاقتا في تفحص سريع وهما تجريان فوق قامتي الضئيلة .. أعرف .. أنا لست ضئيلة على الإطلاق بطولي البالغ 168 سنتيمترا .. إلا أنني شعرت كذلك أمام ضخامته .. ليتني ارتديت قميصي الأبيض المزركش .. فهو يظهرني أكثر جمالا .. منعت نفسي بصعوبة من تمرير أصابعي عبر شعري المشعث من عناء السفر .. وندمت بشدة على عدم تجديد زينة وجهي في الحمام بعد نزولي من الطائرة .. وكيف لي أن أعرف بأن أدونيس شخصيا سيأتي لأخذي من المطار ؟؟؟ لقد حسبت حقا بأن خالي سيأتي بنفسه لأخذي .. أو ربما يرسل أرزو وعلي على الأقل .. لم يظهر أي تأثر في نظراته السريعة وهو يسألني إن كنت ( أسيل فاضل ).. حدقت به مذهولة من نبرة صوته الأجشة .. و تهت وأنا اتساءل عن مظهر زوجته المحظوظة محاولة تذكر ما أخبرتني به أرزو عنها .. وإذ به يعاود سؤالي بالانجليزية وكأنه قد ظن بأن تأخري في الإجابة عن سؤاله هو جهلي باللغة التركية .. فأومأت برأسي مرتبكة .. ابتسم أخيرا وهو يحمل الحقيبتين الكبيرتين بسهولة شديدة.. ويتابع حديثه بالانجليزية :- أهلا بك في تركيا .. لقد أرسلني خالك لاستقبالك .. كان ليأتي بنفسه لولا انشغاله الشديد ..
عندما لم أمنحه إجابة هذه المرة أيضا .. مذهولة بروعة ابتسامته .. سار مشيرا إلي للحاق به .. فسرت وراءه مدركة بأنه يظن الآن بأنني إما خرساء .. أو بلهاء .. لسبب ما .. عجزت عن قول أي كلمة تغير رأيه هذا.. طوال الطريق إلى منزل الخال فريد .. وأنا جالسة على المقعد المجاور له في سيارته الرياضية الفضية الغالية الثمن .. اكتفيت بالتحديق عبر النافذة محاولة تذكر المدينة التي عاشت فيها أمنا حياتها كلها .. متذكرة القصص التي حكتها لنا قديما عن طفولتها السعيدة .. وعن أيامها في الجامعة .. ثم لقائها بأبي القادم إلى استانبول في زيارة ترفيهية مع مجموعة من أصدقاءه .. ووقوعها في حبه رأسا على عقب ..
منزل الخال فريد ما يزال كما هو .. مبنى قديم مكون من طابقين في الجزء القديم من وسط المدينة.. على بعد دقائق سيرا على الأقدام من المرفأ .. هذا المنزل الذي ولدت فيه أمنا .. والذي قضينا فيه برفقتها أجمل العطل .. المنزل الذي يصر الخال فريد على الاحتفاظ به رغم قدمه وضجيج حيه المطروق دائما من السكان والسياح لقربه من الأسواق الشعبية ..
استقبلتني زوجة خالي .. العمة لمعان بحفاوة كبيرة .. ضمتني وقبلتني وكأنني ابنة أختها هي .. ثم سالت دموعها وهي تتذكر والدتنا .. وتخبرني كم أشبهها .. أرزو مازالت كما هي .. شعر أحمر قصير ونمش كثير يعلو ملامحها الطفولية .. جسدها النحيل استدار قليلا إلا أنه ظل يميل إلى الصبيانية كما أذكرها .. رغم الملابس الأنثوية التي ترتديها .. علي كبر كثيرا .. أتصدقين بأن طوله يزيد عن ال180 سنتيمترا ؟؟؟ لم يعد ذلك المراهق الذي نذكره .. لقد أنهى الثانوية العامة أخيرا .. وينوي بجدية أن يدرس الطب ..
لم أر خالي فريد بعد ... ولكنني سأفعل هذا المساء بعد أن يعود من عمله .. مازلت غير مصدقة لوجودي هنا .. سأعاود الكتابة لك لاحقا .. إذ علي ترتيب حاجياتي في المساحة التي أفسحتها لي أرزو في خزانتها .. قبل اقتحامها خلوتي .. أحبك وأشتاق إليك .. بلغي إياد تحياتي
أسيل
أنت تقرأ
في محراب العشق
Roman d'amourاحمل قلبي في حقيبة وأرحل . . أقف في مفترق طرق . . البحر من امامي . . وهاوية حب لا قرار لها من ورائي . . خياران أحلاهما مر . . هل أتبع قلبي فأخسركل شيء ؟ . . أم عقلي وضميري فيخسر كل من أحب و حبيبتي جيهان . . أستودعك . . فأذني لي بالرحيل . . إن قابلته...