لوهلة .. بدت لكمال شبيهة بأرزو الصغيرة .. التي كانت تركض صارخة فيما مضى كلما رأت صرصورا مطالبة إياه بقتله .. بعينيها المتسعتين .. وفمها الذي انفرج عاجزا عن قول كلمة .. مما أتاح له الفرصة للنظر إليها من جديد وبعناية هذه المرة .. تاركا العنان لشوقه الذي تراكم وتكدس داخله لعام كامل منذ رآها في حفل زفاف جيلان .. تلفت الأنظار بشعرها الأحمر الثائر .. وفستانها الذهبي الضيق .. تفيض غرورا وكبريائا وهي تتجاهله مع كم الرجال الذين حاموا حولها وتقربوا منها تلك الليلة وقد أخذهم الإعجاب بها
كانت تبدو مختلفة بعد سنتين من القطيعة ... شعرها الأحمر كان طويلا هذه المرة .. جدائله الجعداء كانت تستريح خلف ظهرها وفوق كتفيها مشكلة إطارا جذابا لوجهها الشاحب الصغير .. عيناها مكحلتان بإتقان بالكاد كان ظاهرا لمن لم يحفظ مثله مكان كل رمش ووكل حبة نمش في وجهها الجميل ..
انحدر نظره نحو قوامها النحيل بسروال الجينز الضيق .. وتملكه العجب .. إذ أن أرزو ما كانت يوما من محبي ارتداء السراويل .. كانت تفضل دائما ارتداء فساتين تخفي صبيانية جسدها النحيل .. الذي ما عاد صبيانيا وقد امتلأ قليلا .. واستدارت منحنياته وظهرت بوضوح تحت القماش المشدود لسروالها الأزرق .. وقميصها الأبيض الذي التصق أعلاه بجسدها فأبرز أنوثتها الجديدة عليه .. بينما انساب ما تبقى منه فضفاضا مخفيا رشاقة ونحول خصرها تاركا لخياله العنان
تفاعله الجسدي العنيف مع جاذبيتها المجهولة لها حتى الآن بمعجزة .. والجديد تماما عليه أربكه وأقلقه .. وهو يتحرك بعدم ارتياح منزعجا من التأثير الذي سببه لقاءه بصديقة الطفولة .. لا .. لم تكن أرزو يوما مجرد صديقة طفولة .. لقد كانت حلم الطفولة .. حلم انتهى قبل أن يبدأ
لم تكن أرزو تشاركه ارتباكه أو أحلام يقظته .. كانت ما تزال مذهولة بتصريحه الأخير .. حدقت به محاولة معرفة إن كان يكذب عليها أم لا فقابل نظراتها بثبات جعلها تهتف باضطراب :- أنت كنت صاحب الفكرة .. كيف ؟؟ كيف ؟؟
قال بهدوء :- الأمر بسيط .. لقد رأيت بأم عيني نية أسيل الواضحة للاستسلام لذلك الرجل .. عندما لحقت بها أنا وفريد كانت منهارة أمام الميناء تفكر بأي طريقة ستخبرنا بقرارها .. فخرجت الفكرة فجأة من رأسي وقد استوحيتها من مشهدها ذاك .. تحدق في المياه وكأنها تتساءل إن كان إلقاءها لنفسها فيها سيحل مشاكلها ومشاكل غيرها كافة
هتفت أرزو بانفعال :- فخطر لك وقتها أن تتظاهر بالموت وتخدعنا كلنا
هز كتفيه وهو يقول :- لقد خرجت الفكرة من فمي قبل أن أفكر .. لم يخطر لي إطلاقا أن فريد سيعمل على تنفيذها فورا .. لقد كان الحل المثالي لمشاكل أسيل .. ومهربا متقنا من بين براثن ذلك الرجل الذي جعل حصوله على أسيل هدفا له مهما كانت النتيجة
هتفت أرزو وهي تهز رأسها ودموع القهر تكاد تخونها :- كيف استطعتما فعل هذا يا كمال .. كيف فعلتما هذا بي ؟؟ كيف تركتماني اظن لسنتين بأنني كنت سببا غير مباشر لموت أسيل ؟
تأفف وهو يتجاوزها قائلا بنزق :- كالعادة .. لا تفكرين سوى بنفسك يا أرزو .. عالمك ما يزال يدور حول شخص واحد لا غير .. أرزو الأنانية و..
قاطعته صارخة فجأة :- توقف عن قول هذه الكلمة ..
استدار نحوها ببرود .. بينما صرخت هي مجددا وقد فقدت أعصابها ودموعها تتدفق من عينيها :- توقف توقف توقف .. إياك أن تنعتني بهذا الاسم مجددا .. أتفهم ؟؟ أي شيء إطلاقا لا يمنحك أنت وأبي الحق في فعل هذا بي .. بتعذيبي لسنوات بذنب لم أرتكبه .. هل تعرف كيف عشت طوال السنوات الماضية .. كيف كانت أسيل تزورني كل يوم في أحلامي تلومني على ما حدث .. كيف كنت أستيقظ كل ليلة .. كل ليلة أبكي وأتوسلها أن تعود ؟؟ طبعا لا تعرف .. كما لا يعرف أي أحد .. لأنني أرزو الأنانية الحقيرة التي استحقت النبذ والنفي بسبب جريمة قتل لم ترتكبها
جمد مكانه وهو يتلقى ثورتها المفاجئة .. كان يتوقع انفجارا غاضبا من أرزو عند معرفتها الحقيقة .. إلاأن رؤيتها على هذه الحالة .. منهارة .. متألمة .. تخيلها تستيقظ كل ليلة مرتعشة باكية دون أن تجد من يضمها ويخفف عنها وقد أبعدت عن منزلها وعائلتها بسبب أخطائها .. أثارا شجونه ..
أرد أن يسير إليها ويضمها إليه .. ويمرر أصابعه بين خصلات شعرها الناعمة .. أن يمسح دموعها .. ويملأ وجنتيها المبتلتين بالقبل .. ارتعش جسده بموجة إثارة صفعته .. إذ أن أي من صديقاته اللاتي رافقهن خلال الفترة القصيرة التي أصبح خلالها شخصا معروفا .. واللاتي ارتبط اسمه بهن كنوع من الدعاية والنشاط الاجتماعي الذي يتطلبه عمله .. لم تثر لديه ردود الفعل هذه .. حتى أرزو .. التي كانت مشاعره اتجاهها دائما .. مغلفة بالبراءة والدفء .. بالحنان والحماية .. لم يشعر قط نحوها بهذه الطريقة ..
قال بغلظة مبالغ بها محاربا بها مشاعره :- أظنك استحقيت أن تعاني قليلا بعد ما فعلته طوال حياتك بالآخرين .. ربما أنت لم تقتلي أسيل .. إلا أنك كنت سببا غير مباشر لتعاستها .. لاضطرارها للهرب .. وبالتالي بتعاسة العشرات غيرك .. إن كانت الفترة الماضية قد حملت لك أي نوع من التعب والعذاب .. قد استحقيتها كاملا وعن جدارة أرزو .. وأنا لست نادما إطلاقا على ما فعلته .. فيما يتعلق بك أنت على الأقل .. لأنك ستظلين دائما ومهما فعلت .. موصومة بأفعالك القديمة .. بطفوليتك وأنانيتك .. بجنو....
لم يستطع إكمال عبارته عندما فاجأته أرزو بانقضاضها عليه بقبضتيها تضربه بقوة على صدره العاري وهي تصرخ :- اسكت .. اسكت
حاول إيقاف ضرباتها الموجعة دون فائدة .. فقد تراكم غضبها وألمها ووحدتها لسنوات ليولدوا داخلها عنف خرج تماما عن السيطرة وهي تحاول إفراغ شيئا منه فيه .. أمسك معصميها وهو يقول بحدة :- توقفي عن التصرف كالمجنونة ..
بدأت تركله بقدميها وقد كبل يديها وهي تصيح به :- أنا أكرهك ... أكرهك
اضطر في النهاية لدفعهها نحو جدار منزله الخارجي .. يلصقها به مكبلا يديها إلى جانبي رأسها .. محاصرا جسدها بجسده وهو يقول من بين أسنانه :- توقفي عن الخدش والضرب وكأنك قطة شوارع .. هل تظنين نفسك قادرة على هزيمتي بهذه البنية الضئيلة الشبيهة ببنية دودة أرض ؟
وكأنها كانت بحاجة إلى مزيد من الاستفزاز .. صرخت به وهي تقاومه بجنون :- أقسم على أن أشوه وجهك هذا حتى تعجز أي من معجباتك الحمقاوات عن النظر إليك
أطلق ضحكة متوترة وهو يقول :- أتزعجك معجباتي يا عزيزتي ؟؟ أؤكد لك بأن خرمشاتك على وجهي لن تزيدهن إلا جنونا ولهفة لمعرفة هوية القطة التي خدشتني
مال بوجهه نحوها قائلا باستفزاز :- قد تتساءلن عن الوضع الحميم الذي كنا فيه فأفقدك سيطرتك على نفسك ودفعك لخدشي .. يحدث هذا كثيرا مع ذوات الشعر الأحمر إن كنت لا تعلمين ..
جرأة تلميحاتك أوقفت قتالها .. أخذت تنظر إليه متوترة وقد سارع الجهد أنفاسها فباتت تلهث .. بينما تأملت نظراته وجهها الذي احمر بسبب الغضب والجهد .. وشعرها الذي ثار أكثر وتشعث فاستحال إلى كومة حمراء متشابكة فوق رأسها .. انزلقت أنظاره إلى صدرها الذي تحرك متناغما مع أنفاسها العنيفة .. فبرقت عيناه ..وانفرجت شفتاه فشهقت ملاحظة لأول مرة امتلائهما وشهوانيتهما .. رفع رأسه إليها ببطء .. والتقت نظراتهما طويلا ..
كان الأمر مذهلا تماما لكل منهما .. وكأن تاريخهما القديم قد محي تماما .. وكأن أرزو وكمال .. صديقي الطفولة القديمين ما عاد لهما وجود .. وكأنهما قد استحالا في هذه الحظة إلى غريبين .. غريبين يفاجآ لأول مرة بقدر الانجذاب القاتل بينهما
قال كمال بهدوء :- أستخدشينني حقا ؟
قالت لاهثة :- لن أتردد لحظة في هذا
رسم ابتسامة جانبية ساخرة وهو يقول :- كنت ستخيبين أملي كثيرا لو أنك فعلت
بهدوء وبطء .. حرر إحدى يديها .. ليمرر أصابعه الملطخة بالطين بوجنتها .. الواحدة تلو الأخرى .. راسما خطوطا أفقية داكنة .. بينما حبست هي انفاسها .. تحدق به متسعة العينين .. عاجزة عن إيقافه .. ثم ارتفعت يده لترسم خطا رأسيا في منتصف جبهتها .. فأدركت ما يفعله .. متذكرة حدثا قديما عندما كانا يلعبان مع علي في حديقة منزلهم .. يتظاهرون بأنهم هنود .. يرسمون الخطوط على وجوههم بالوحل ضاحكين .. يسخر كل منهم من الآخر غير عابيء بتوبيخ لمعان القادم على ما سببوه من فوضى .. فقالت بصوت مرتجف :- ما الأمر كمال ؟ .. هل تحن إلى الماضي ؟
نظر إلى عينيها .. وقال بثبات :- الماضي مات وانتهى يا ارزو .. وأنا ما عدت أرغب باستعادة صداقتنا ولو مقابل كل أموال العالم
طعنها تصريحه .. لاحظ جيدا ذلك التجعد المألوف في ذقنها .. والذي تزامن مع امتلاء عينيها بالدموع دون أن تسمح لها بالظهور .. قالت بخشونة :- ليس هناك ما يقال بيننا إذن
وبدلا من أن يحررها كما توقعت .. قال فجأة :- بل هناك الكثير ليقال .. ويفعل
أحنى رأسه مستغلا غفلتها عن نواياه ... مستغلا حالة الضعف التي سببه لها تصريحه .. وعانق شفتيها بشفتيه مقبلا إياها بقوة وتصميم ..
حتى هو لم يتوقع النتيجة الضارية للقبلة الأولى والوحيدة وغير المتوقعة مع صديقة الطفولة .. لطالما فكر في الماضي بها بين ذراعيه .. تخيل مشاعره وهو يحتضنها ويقبلها كما يقبل الرجل حبيبته .. لطالما فكر أن تحت هذا الشعر الأحمر الثائر .. ووراء الواجهة العنيدة والانفعالية تكمن امرأة ضارية العواطف .. إلا أنه لم يتوقع أن يكون للمسه شفتيها .. لمجرد تذوقه رحيقها الشهي .. لتنفسه شهقتها العنيفة .. لإحساسه بجسدها ينتفض بين يديه .. هذا التأثير العنيف عليه .. عليهما معا
حرر يديها بحاجة ملحة لإحاطة خصرها النحيل بذراعيه وتقريبها منه أكثر .. بينما التفت يداها بلهفة حول عنقه وكأنها كانت تبحث منذ أمد بعيد عن هذا التواصل الجسدي الحميم معه
ألصقها مجددا بالجدار رافعا ساقيها لتحيطا بخصره .. وضغط عليها بجسده .. وهو يسحق شفتيها بعنف وقهر ولده شوقه الشديد.. غضبه وإحباطه في كل يوم مر خلال السنوات الماضية وهو عاجز عن التنازل والذهاب إليها .. عارفا بأنها أبدا لن تقوم بالخطوة الأولى وقد تمزقت كل أواطر صداقتهما بين ليلة وضحاها وصار العداء الصارخ هو ما يجمعهما حتى دون أن يضطر أحدهما لرؤية الآخر ..
حرر شفتيها أخيرا ناظرا إلى عينيها اللامعتين .. إلى وجهها المتورد وفمها اللاهث .. بينما كان يجاهد لالتقاط أنفاسه .. لمنع نفسه من الانقضاض عليها من جديد .. كان عليه أن يضبط نفسه .. أن يستعيد سيطرته على حواسه .. أن يبعدها عنه قبل أن يتهور .. أنزلها فجأة لتقف على قدميها قائلا بخشونة :- من الأفضل أن تذهبي إن كنت قد قلت ما جئت لأجله .. فأنا لدي موعد مهم خلال ساعة
اتسعت عيناها وجرح عميق يرتسم فيهما .. أبعدته عنها بيدين مرتعشتين فابتعد على الفور .. وراقبها تبتعد شبه راكضة بدون أي كلمة حتى اختفت عن نظره .. وبعد دقيقة كاملة من الشرود الذاهل .. استدار ليوجه لكمة قاسية للجدار الخشن مفرغا فيها كل غضبه وإحباطه وهو يقول بسخط :- كالعادة أرزو .. كالعادة تفسدين كل شيء
أنت تقرأ
في محراب العشق
Romanceاحمل قلبي في حقيبة وأرحل . . أقف في مفترق طرق . . البحر من امامي . . وهاوية حب لا قرار لها من ورائي . . خياران أحلاهما مر . . هل أتبع قلبي فأخسركل شيء ؟ . . أم عقلي وضميري فيخسر كل من أحب و حبيبتي جيهان . . أستودعك . . فأذني لي بالرحيل . . إن قابلته...