الفصل الأول "وداع زائف"

507 23 17
                                    

*

" فيا راحلاً لم أدرِ كيفَ رحيلهُ, لِما راعَني من خطبهِ المُتسرعِ

يلاطفني بالقولِ عند وداعهِ, ليُذهِبَ عني لوعتي و تفجعِي

و لما قضَى التوديع فينا قضاءَه, رجعتُ و لكن لا تسل كيف مرجعي"

-بهاء الدين زهير

*

ما أن كاد يلمس وجنتها, بلمسة كلها خفة و عفوية, كأنما هو ماد بيده لوردة ذات رقة و عذوبة, خائفا من أنه و بحركة خاطئة جاعلٌ بتلاتِها تتطاير مع نسيم الربيع, حتى همت هي ماسكة يده بكلتي كفيها, و دموعها المترقرقة من مقلتي عينيها لا تبرح ألا تنساب على خدها الذي خانته الحمرة و أغرقته العبرة , قربت يدهُ إلى قلبها المنفطر, لتُشعره بنبضاتها المتسارعة, التي لم تنفك يوما عن الجيشان, لطالما كان فؤادها شديد الرجف و الاختلاج, في حضوره و في غيابه, في قربه و في ابتعاده, لم يكف جنانها يوما عن الولع به, الشوق له, الحنين لمرآه, الغبطة لملقـاه, و الشجو لنواه, حتى تدرك على حين غرة, أن وقتها معه لم يكن بالأبدي, و أن غيابه أمر حتمي, ربت على يديها, مسح على رأسها, و قَبَلَ جبهتها, رموشها ثم خديها, بالأعين تخاطبا و طرف اللسان ما تحرك, لم تحتمل الشابة ما أصابها, فهاهو محبوبها حتى لب النخاع تألق, لا ليدق على جرس بابها طالبا يدها, و لا مرسلًا زهرًا على طاولة غرفتها ليتوضع, بل ليُلقي عليها طلة الوداع, و يضمها ضمة بارتياع, انحنت برأسها فمستقرها على صدره, و ذراعاها أحاطت بخصره, نطقت بصوت هادئ أشبهٍ بالهمس, فيه بحة خفيفة, بعض الأنفاس المختنقة و الشهقات المتقطعة.

"إذا أنت راحل و قرارك لا رجعة فيه, ستتركني... ألا ينتابك تأنيب الضمير؟"

" لا تتحدثي و كأني لن أعود إليك البتة, فأنت لي المأوى فيك السكن و السكون و السكينة, فلا أنا أتحمل البعد الطويل عنك, و لا أرضى بغيرك ملتجأ"

" إذا لمّ؟ لمّ عليك الذهاب إلى المدينة الموحشة, تاركا الهناء و العيش الرغد في قريتنا"

" حبيبتي, كبدي و فؤادي أنت, تعلمين حالة أمي, مرضها يقتلها كل يوم, تأوهاتها و بكاؤها يخدش روحي, و يمنع النوم عن جفني, فلا أنا بالمرتاح إلا و دواؤها بين يداي"

" ألا يمكنك أن تكلف أحدًا بإحضار الدواء بدلا عنك؟ لقد أخبرتني أن لك معارف في المدينة, لا أظن أنهم سيردونك إن طلبت منهم معروفا"

" عزيزتي, تعلمين أن المدينة تختلف عن قريتنا الصغيرة, العيش فيها يلزمه كد و جد, هم لا يتعاملون مثلنا هنا, نحن إن لم يكن لدينا مال لنشتري به حوائجنا, نبادله بشيء أخر يحتاجه غيرنا, لهذا لا ترين أحدًا عندنا يموت من سُعار أو قرس, لكن المدينة خلاف ذلك, أحتاج إلى المال لأشتري دواء أمي, مال لا يمكننا توفيره لا أنا و لا أنت معا بعملنا في قريتنا, لذا علي الذهاب إلى هناك لأجنيه ثم أعود إليك بمشيئة الله, فلا تقلقي, أعدك أن أعود إليك سالمًا معافًا كاليوم الذي رحلت فيه"

كونفالاريا أيار -زنبق الوادي-حيث تعيش القصص. اكتشف الآن