الفصل الثاني "اللحاق" ٣

148 18 0
                                    

  فارقت ميراي قريتها التي لم تبعد عنها من قبل, لم يسبق لها أن قطعت في حياتها مسافة تفوق العشرات من الأميال, و اليوم ستخوض التجربة لأول مرة في أربعة و عشرين عامًا, ركبت عربة صفراء متوسطة الحجم تعج بالمسافرين تجرها الأحصنة, أغلبهم لهم الوجهة ذاتها, المدينة, اتخذت الشابة لنفسها مقعدًا في مقدمة العربة, و وضعت محفظتها في حجرها, ثم أخرجت منها قلادة قديمة, أهداها إياها حبيبها في عيد ميلادها, بالرغم من قدمها إلا أن لها مكانة عزيزةً في قلبها, كانت تلك القلادة من أمه التي ورثتها عن جدته, ابتسمت تلقائيا, كأنها ترى ذكرى ذلك اليوم تحدث أمام عينيها, ثم زفرت زفرة طويلة, و أعادتها إلى الجيب الخارجي للحقيبة,و بينما تتأمل المنظر الجميل من على نافذتها, جلست سيدة عجوز بجانبها, شعرت ميراي بتحديقها المتواصل, فالتفت و قامت بتحيتها, ردت السيدة بدورها التحية, و اغتنمت الفرصة لتباشر بالحديث

" أين تتجه فتاة شابة في مثل حسنك وحدها؟"

" سأنزل في أخر محطة سيدتي"

" يبدو أن وجهتك بعيدة جدًا"

" أجل, سأذهب إلى المدينة المجاورة"

" كيف سمحت لكِ عائلتك بالذهاب لوحدك؟ أغلب النساء تجدينهن مع إخوتهن أو أزواجهن"

استغرقت ميراي مدة قبل أن تجيبها

" والداي توفيا منذ فترة طويلة, و أنا أكبر أفراد عائلتي, لذا لا يمكن لأحد مرافقتي"

ردت السيدة بصوت يعبر عن الأسف و قلة الحيلة

" أعتذر ابنتي عن سؤالي, لقد كانت وقاحة مني أن أذكرك بحدث شنيع"

" لا عليك سيدتي, لقد مر وقت طويل على ذلك, لم أعد أذكرهما جيدًا, لكنني أشعر بأسف أكبر على إخوتي, خاصة أصغرهم الذي كان رضيعًا حينها"

" يا لك من فتاة قوية, كم كان عمرك حينها؟"

" كنت في الخامسة عشرة"

" كيف استطاعت فتاة صغيرة العناية برضيع و حتى أخوتك الآخرين؟ كيف حصّلت قوت يومك؟ و كل تلك المسؤوليات التي تلحق بتربيتهم؟"

" إن من رحمة الله و عنايته الإلهية, أن كان إخوتي كالملائكة على الأرض, رغم صغر سنهم كانوا أنضج مِن منْ هم أكبر منهم سنًا, فلا أتعبوني و لا كانوا سببًا في شقائي, حتى الرضيع ما كان كثير البكاء, أو النهوض في الليل, أما قوتي فكان متذبذبًا, موهبتي في الخياطة لم تكفي, مرةً أبيع في اليوم فستانًا واحدًا, و إن كان حظي وافرًا أبيع اثنين أو ثلاثة, و مرات لا أبيع شيءً لأسبوعٍ أو أكثر, أمضينا أيامًا لا نملك فيها كسرةً نقتات بها, إلا أن جيراني و أصحابي لم يغفلوا عني يومًا, لطالما تقاسموا طعامهم معي نصفًا نصفا, شاركوني كل ما يملكون, و لم يطلبوا يومًا مقابلًا, ما طلبت منهم شيءً, إلا و لبوه, لم يردوني يومًا خائبة, و الحمد لله لم أشهد في حياتي التعاسة أو الحاجة و الفقر, عشت بسيطة, و لم أتمنى غير ذلك"

انغمست الشابة في الحديث مع السيدة المسنة حتى بلغت المحطة التي ستركب منها عربة أخرى متجهةً إلى المدينة, رغم حزنها لفراق صاحبتها الجديدة, إلا أنها ودعتها بحرارة, كما دعتها السيدة لزيارتها إن سمحت لها الفرصة.

~

《شاركونا رأيكم في التعليقات》

ستكون الأجزاء أطول في المرات القادمة

كونفالاريا أيار -زنبق الوادي-حيث تعيش القصص. اكتشف الآن