لم يكن البحر هائجًا بهذا الشكل من قبل، يبتلع أضخم السفن في عرضه، يأكل من يشاء دون سابق إنذار، ويتحدى أعتى البحارين في خوضه وهو في هذه الحالة العارمة، ولم يكن يجرؤ مخلوقٌ على مجرد التفكير في الاقتراب منه، فالقريب منه هالكٌ لا محال، هالكٌ بأمواجه القاتلة التي لم تعرف الرحمة قط، و لم يقتصر الأمر على ثورة غضبٍ من البحر، ولكن كانت السماء مُلبدةً بالكثير من الغيوم المُمطرة، تُمطر السماء بلا هوادة، وكأنها تبكي فُقدان ابنٍ عزيزٍ عليها، والبرق يسبق الرعد، فإذا أبرقت أنارت سماء البلدة وجعلت ليلها نهارًا، وإذا أرعدت تُطلق صوتًا يصُمّ آذان أهل البلدة من شدة قوته، صوتًا يهابُه البشر.لقد بدا الأمر وكأنه هناك حربٌ قادمةٌ بين السماء والبحر، كل منهما يعرض قوته الضاربة على الآخر مُنذرًا إياه من محاولة مجاراته قبل الحرب العتيّة، حرب لن تقوم أبدًا.المكان هو "ديستوبيا"، واليوم هو يوم التحريم، يوم يحدث كل عامٍ مرة، يوم عُرف عنه شدة المطر وقوة الأمواج فيه، ولكن لم يصل الأمر لهذه الضراوة من قبل، وكأن حدثًا جَللًا قيدُ التنفيذ، حدثًا اهتزت له سماء الأرض وبحرها.في هذا اليوم يُمنع أهل البلدة من الخروج من ديارهم، ومن يخرج فإنه آثمٌ وعقابه هو الموت، إلا من أتى بحجةٍ قويةٍ فيُكفَّر عن ذنبه أمام الملك "آمبروسيوس" وسوف تعفو عنه الآلهة، فتنتشر جنود الملك في أرجاء البلدة مُستَثنين من قانون الآلهة، دورهم هو القبض على كل من سوَّلت له نفسه أن يتلاعب بهذا القانون.نقترب قليلاً للبلدة، وتحديدًا لشارع "الحدادين"، الذي سُمي بهذا الاسم نظرًا لكثرة ورش الحدادة به، أما البيوت فارتصت على جانبي الشارع، يفصل بين كل بيتٍ وآخر ورشةٌ للحدادة.هنا في شارع "الحدادين" حيث لا صوت ولا حركة فيه إلا من جنديٍ يسير مُلتحفـًا بعباءةٍ ثقُلت على جسده من كثرة المياه التي شربتها، ويحمل مصباح زيت يُنير له بضعة أمتارًا أمامه.توقف الجندي عن سيره بعد أن أبرقت السماء فأنارت الكون بأكمله، وأرعدت فأطلقت صوت انفجارٍ عالٍ دوى في آذان كل الكائنات الحية على هذا الكوكب.بعد وقوفه أمام إحدى البيوت يتابع الجندي السير، ثم يُفتح باب البيت ويخرج من فتحته الصغيرة رأس رجل مُلثَّم بدا عليه الذُعر والعجلة في أمره، يُراقب الحركة في الشارع ويتأكد أن الجندي قد ابتعد بما يكفي له أن يخرج مُتسللًا.أي مجنونٌ يخرج في مثل هذا الطقس المُميت، ناهيك عن فرص نجاته من عقوبة قانون الآلهة إن لم يكن يمتلك حجةً قويةً تُدعمه، فالخروج في مثل هذا الطقس بحد ذاته يُعد انتحارًا.
يخرج المُلثَّم بعدما تأكد من عدم وجود أي جنديٍ بالقرب يمكنه كشف أمره، وتحرك مُستغلًا ضوء البرق الوهّاج الذي ينير له خطواته، مُتسللًا بين بيوت شارع "الحدادين" حتى خرج منه ووصل لشارع "الكسندرا"، وبات يتسلل من هذا البيت لذاك حتى وصل أخيرًا لهدفه.
شارع "الكسندرا" لا يختلف كثيرًا عن شارع "الحدادين"، لكنه امتلئ بمحلات الخضروات والفاكهة وحانات الخمر، والوضع المادي لقاطني هذا الشارع يبدو أفضل بكثيرٍ مما يبدو عليه قاطني الشوارع المجاورة.وقف المُلثَّم أمام باب أحد البيوت، وقبل أن يهُمَ بالطرق سمع صوت خطواتٌ قادمةٌ، فدخل في الحارة الواقعة بين البيت المنشود والبيت المجاور له، واختبأ خلف صندوقٍ كبيرٍ للقمامة، ظل الرجل يسترق السمع مُنتظرًا رحيل الجندي الذي ظل يقترب للحارة حاملًا مصباح زيت، وفجأة وقعت بعض القمامة من قمة الصندوق، فوجّه الجندي مصباحه تجاه الصندوق، بعد أن أثارت هذه الجلبة الشك في نفسه، وأخذ يقترب من الصندوق رويدًا رويدًا مُسلطًا ضوء المصباح عليه، مُستعدًا لمُلاقاة أحد الخارجين عن القانون، و قد ارتفع صوت نبضات قلبه.وضع المُلثَّم يده على سكينه الذي دسه في طيات عباءته، وفكّر في شق عنق هذا المتطفل اللعين، ثم أخرجه مُستعدًا لتلك اللحظة التي كان متأكدًا من قدومها، ولكن تخرج قطةٌ من قلب الصندوق مُحدثةً جلبةً عاليةً أخرى، فيفزع الجندي ويتنفس الصُعداء، ثم يُنادي جنديٌ آخرٌ من بعيد: "ما هذه الجلبة عندك يا "كلاوز"؟"
أنت تقرأ
ديستوبيا
Fantasyيخرج المُلثَّم بعدما تأكد من عدم وجود أي جنديٍ بالقرب يمكنه كشف أمره، وتحرك مُستغلًا ضوء البرق الوهّاج الذي ينير له خطواته، مُتسللًا بين بيوت شارع "الحدادين" حتى خرج منه ووصل لشارع "الكسندرا"، وبات يتسلل من هذا البيت لذاك حتى وصل أخيرًا لهدفه.