"جدي، أبو والدي" قال تايونغ، وصَمَت
استغلت اليراعات الخضراء صمتهما ورفعت حدّة صفيرها
ولكن جشع تين للقصص لا يُسَد، سأل مُستنكراً: هذا فقط؟! . رَفَعَ حاجباً
استلقى تايونغ على ظهره وأراح رأسه على ذراعه
قال وهو يتبع اليراعة بعينيه تدور فوقه: جَدّي، كان يُرَمِّم البيوت لأهالي القُرى الفقيرة، بذكائه الهندسي ولا يقبل مقابل أبداً
وكان يصنع الخبز يومياً ويوزعه على الناس ليكفيهم، حتى أنه ما كان هناك باعةُ خبز، لا تزال أرض القمح حية حتى بعد رحيله، كان يهدي زوجته أفخر الأقمشة، وبدورها، كانت زوجته تخيطُ الفساتين من الحرير التام وتهديها لنساء القُرى الفقيرة، وكان الأطفال يحبونه، كان يصنع الخير، لَم يكُن ينتظر مقابل لأفعاله، كان شديد الإيمان يُحسِن لأجل الله
كان أهلُ سلام، أسموه برائدِ القلوب
ولكن شاءت المنية ودنت منه صُبح الثلاثاء
ولذا قررنا -عائلتي وكُل مَن تلقّىٰ منه إحساناً- ألّا نغادر بيوتنا كل ثلاثاء، لنخبره أننا نتذكره ونألف روحه بيننا. قال ذلك مفتوناً، سقطت اليراعة على جبهته وأغلقت جناحيها، وهو أغلق عينيه تلقائياً وعاد يفتحها
تأمله تين مطولاًهَمْهَمَ تين، ثم قال: كم يبدو مثيراً، أتمنى لو كنتُ خيِّراً
قال تايونغ: أجل، رغم أني لَم أقابله أبداً ولكني أطمح لأن أكرس أفعالي لإفادة الناس، المعدومون منهم، مثله تماماً، بل أكثر . كان صوته أقرب للانزعاج، اقترب منه تين حانياً صدره
قال بهمسٍ حماسي: كم عمرك يا تايونغ؟
لَم يأخذ تايونغ وقتاً حيثُ قال: سبعة عشر، وأنت؟
رد تين متفاجئاً: ستة عشر! . قَفَزَ تايونغ مفزوعاً
اعترض: ها؟! حسبتُكَ ذو اثنا عشر! . قَمَعُه تين بلكمةٍ على رأسه وقد أَلَمَّ بِهِ غضبٌ خفيف
فركَ تايونغ رأسه متألماً وعاد يستلقيتنهَّدَ تين، قال متسائلاً: ألا تبرد؟ إن الليل، رُغم دفء الربيع وسهولة لياليه، يبقى بارداً، مؤذياً
قال تايونغ: أنا لا أشعر بالبرد سريعاً، لدي جسمٌ عازلٌ
سَخِرَ تين: "جسمٌ عازل" أأنتَ فروي؟ ولكن عظمك بارز! أختي أيضاً، نحيلة ولا تدفأ أبداً، كيف ذلك؟
قال تايونغ: ربما أبدو نحيلاً ولكنني بصراحة، مليء بالطاقة، لذلك رُبما لا أبرد . رَقَّصَ حاجبيهصمتا قليلاً
ثُم غَمْغَمَ تايونغ: إذاً رُبما نكون بنفس الصف..
بُهِتَ تين
عَدَّلَ جلسته وقال بصوتٍ به حدة: ليس تماماً . استقام تايونغ متفاجئاً
اقترب من تين بقوة وهَمَس: أتقول أنك لا تدرس؟! يا للحظ! يا لحظك يا تيـ-
قاطعه تين، وقد اتخذ وضعية دفاعية ليبتعد تايونغ: أنا أدرس، في المدرسة، ولكن، ليس هنا
سأل تايونغ آلياً: أين؟
قال تين، وقد التفت بعيداً: في المدينة . استقام تايونغ سعيداًقال: أنت فعلاً محظوظ! أتذكر أيامي في المدينة.. كانت حياة . هَمْهَم متفاجئاً
عاد يجلس ويستلقي مثلما كان
أكمل: كنتُ أعلم أنك ساكنٌ جديد، لَمْ أرَ وجهك من قبل ولا حتى في المدرسة . تورّدت وجنتي تينأطال النظر لوجه تايونغ، أَتْكأ رأسه على ركبتيه، ابتسم
أشاح تايونغ عينيه لكيلا يلتمس مع تين
قال متوتراً: ما بك؟!
هَمَسَ تين: لا تهتم! . استكنَّت اللمعة وسط بؤبؤتيه، كأنها خَرَزَة
قال بصوتٍ مطمئن، وكأنه يملك العالم: غداً، أنا وعمتي، سنزورك أنت ووالدك . لا يزال باسماً
جلس تايونغ بهدوء، يبحث عن المزح في وجه تين، يفحصه بعينيه على كُل إنشٍ ومسافة
قال تين: أتقبل؟
قال تايونغ غير مصدق: بشرتُك ناعمة، نظيفة، أأنتَ طفلٌ بِحَق؟ . اتسعت حدقتي تين واختفت ابتسامته، أبعد عينيه للعُشب مُحرَجاً، مُحدّقاً
قال تايونغ: بصراحة، لا أعلم ما أقول لوالدي، سيزورنا أصحاب؟ أم رفيقي سيأتيني؟ هو لا يعلم عنك ولَمْ- . قَطَعَ كلامه شارِداً
قال بعد برهة: مُرحبٌ بكما، يا رفيق . ابتسم
أخذَ الفطيرة من السلة وتناولها بيده، غير آبهٍ للملعقة المطرّفة جانباًحَشَرَ تين وجهه بين فخذيه، لَم يُحب طريقة تايونغ بعشوائية الحديث، وقتٌ للمَديح
رَفَعَ رأسه وقال: أتعرف من تكون العطّارة ياسمين؟ . حُمْرَةٌ خفيفة غَطَّت أعلى خديه
قال تايونغ: أجل، أحياناً أزورها وأشتري منها، كما يوصيني والدي، ولكن أبي لا يحب زادها، يحب أن يزرع بنفسه ويحصد
قال تين: ليس هذا المهم، اليوم أنا قابلتها.. غريبةٌ بحق! تخيل أنها كانت ترتدي قبعةً مخروطية!
استنكر تايونغ، وقد انجذب للحديث: بِجَد؟!
قال تين هامساً: أجل وأعطيتها قسمٌ من نفس الفطيرة التي تأكلها الآن بطريقة تشمئزُّ لها الأعْيُن! . ابتلع تايونغ قضمته وخَبَطَ صدر تين مُستغرباً، سَعَلَ تين وأمسك صدره، حدق به تايونغ قليلاً
ثم تابع أكل فطيرته لا مُبالٍمَرَّت فترة صمتٍ بعد أن أوقف تين سعاله، وهدأ صدره
سَمَحَ لأذنيه بالطَّرب على صفير اليراعات، و*هند البوم يأتي من بعيد، يتصيّد القوارض ببصره الحاد وسمعه العميق، يترصّد في الظُّلُمات بين أوراق الشجر والأغصان، أمام الهلال الأصفر فوق رؤوسِهم
قال تايونغ: بدأتُ بقراءة الكتاب الذي أعرتني، أكانَ اسمُهُ (بائعة الخُبز)؟ بصراحة، بداية موفقة، راقَ لي، وأنا الآن أتوق للصباح كي أكمل القراءة
رد تين متلهفاً: أليس كذلك؟! أين وصلت؟ . تدفّقَ الدم لوجنتيه
نفى تايونغ برأسه وقال: اصبر علي ولا تحرقني! أنا لستُ آكلاً للقصص مثلك! . قهقه تين وقد انحرج قليلاً، شَعَرَ بالحياة مُجدداًقال تين، بنبرة ناعمة، في محاولته لردع الصمت: أنت تكرر كلمة "بصراحة"
رد تايونغ: حقاً أفعل؟ . هز تين رأسه إيجاباً، ابتسم تايونغ وأوغلَ أصابعه بين خصلات شعر تين، نفظه
كأنه يحمي قطنةٌ ورديةٌ دافئة، يحميها من الرياح، من القسوة، من كل ما قد يزعزع كينونتها الحقيقية
انتفظت أطراف تين واتسعت ابتسامته
هو يُحِب، بل يعشق عندما يعبث أحدهم بشعره، تمنى لو يدوم، ولكن يد تايونغ انسحبت وعادت لحضنهقال تايونغ، وقد هدأ صوته: لديك الكثير من الكلمات، في داخلك، ألستُ على حق؟
أتمنى أن تفصح لي وتسرد، طوال الوقت . أعاد تين رأسه على ركبتيه وضم ساقيه بين ذراعيه، تأبى الابتسامة الدافئة مفارقة سحنته
مع حياءٍ يسامرهُما، استمرا يطيلان النظر لبعضٍ مع امتداد الليل
حتى السَّحَر...______________
*الهند: وهو صوتُ البوم
أنت تقرأ
LUDUS
Romanceنبيتُ ليلاً فارغين، ونصحو صباحاً لطيفين، في حقول الأراك وبين الياسمين نستظِلُّ بِظلال شجرة برتقالٍ مُعَمِّرة، ونعيش هدوءً مرجوّاً باسِمين . || حُبّاً طفولياً || مِثْلية .