الجهة الصامتة من القرية

525 60 6
                                    


"كان الكلام معه يُشْبِه الإصغاء لرنين صندوق موسيقىٰ عتيق..." -جورج أورويل

__________

غاص تين وسط حقل قَمْحٍ فسيح، غطّته سيقان القمح المتقشّفة وتعدّته طولاً
قد ابتعد مسافةً غير معلومة عن بيت عمّته
ولم يدري بنفسه ولم يكن يريد العودة
كانت الساعة الثالثة عصراً

تَعِبَ مِن السير خرج مِن الحقل بملامح وجهٍ ساكنة، وراحَ يقعُد علىٰ بداية التَّل
خُضْرَة الزّرع تحته خضرة شديدة حتى بالكاد لَمَحَ يعسوب أخضر، يَنْقُز مِن بُقْعَةٍ فالتالية، حتى اختفى مِن مرآى تين وتوغَّلَ بين القمح
استلقىٰ تين على ظهره وتنهد
قد خَفَّت الشمسُ وسَبَحَت الغيوم فوقه، تارةً تضمُّهُ بظلالها، وتارةً تُفارقه مبتعدة

مَدَّ ذراعيه على العُشب وأخذ يتنفس بِبُطْء، سرت موجةٌ بارِدةٌ لجسده
ولم يحبّذَ الأمر
سَمِع أحدهم يتنحنح، رفع تين جسده وجلس ضامّاً رُكبتيه لذقنه
التفت يمينه، وكان هُناك فتىً نحيل، لا يلتفت لتين، كان ذو شأنٍ مُخْتلِف عنه
يُمْسِكُ مِرَشٌّ فخّاري تتساقط منه قطرات ماءٍ تبرق للأعين قبل أن تحط على العشب

اقترب الغريب مِن تين، رفع المِرش فاستكنَّ باقي الماء في قاع الفخار
قطَّبَ تين حاجبيه ورفع رأسه لينظر له، لَمْ يَرَ غير قسماتِ وجهٍ لطيف حذفت أشعة الشمس بعضه، ضيّقَ جفنيه

تحدّث الفتى: أنت ولدٌ غريب، من أين أتيت؟ . خرج صوته كأن حنجرته مدهونة بعسل
قال تين: أنا.. انتقلتُ تواً من المدينة لأسبابٍ شخصية، هل تراني ثقيلاً؟ . ابتسم الفتى
قال: لا أبداً، مُرحّبٌ بِك . جلس بجانب تين
أكمَل: إنما نحن لا نرى الناس يأتون هنا عادةً، اسمي تايونغ، ساكِنُ القرية مع والدي، أنا برغبتي أهتم بالعشب كما ترى . انبسط تين
قال بأدب: أنا اسمي تين، سرّني التحدث إليك . ارتاح تايونغ، استقام
قال: هُناك مكانٌ يجب أن تراه . تردد تين
رَد: لكن، لا أعلم كم الساعة، رُبما يجب أن أعود لعمّتي
هزّ تايونغ رأسه نفياً وقال: لا عليك، لا يزال الوقتُ باكراً جداً . مدّ يده لتين ليقيمه، استند عليه تين واستقام
مشى على خُطَىٰ تايونغ غيرَ راغِب .

عندما يبتسم تايونغ، يُظْهِر كامِل أسنانه، وشعرُه بنيٌ كثيفٌ حريري
عكس تين، أحمرُ الخدين بشعرٍ فوضويٍ شديد السواد، مثل فحمٍ مبلول، وابتسامةٍ قَلَّما ظَهَرَت
خِلافاً لتين
لَمْ يُكن تايونغ فاتِحاً، بل كانَ حِنْطياً مِثْل رَمْلٍ مُحَمَّص
شَبَّههُ تين بشايٍ مخلوطٍ بالحليب
أن تايونغ معاكس لتين في الهيئة، وهذا يُريح تين .

-

وصلا لِفُسْحَةٍ مِن الجِنان معزولة
وقَفَ تايونغ فارداً قدميه، شامِخاً برأسه وواثِقاً

أولاً، شَهِق تين، ثُمَّ فَغَرَ فاهَهُ وقُرَّتْ عينه
احْمَرَّ أنفه وسَخُنت أذنيه
يقفان أمام مُسْتنقعٍ مهجور سكنته الطحالب العشبية
أخضرَ مائعاً
كان الأخضرُ أساسَ الوجودِ
وفي زاوية النظر، هُناك شجرةٌ هَرِمَة مائلة بورقها على المُستنقع، شجرةُ بُرْتقالٍ مُعَمِّرَة
وحماماتٌ رمادية تسيرُ على حافة المُستنقع
وتمثالٌ متصدّع مِن الفخّار الصُّلْب يتشكّل بهيئة بجعتان حُرّتان لا تقربان الماء أبداً
ومَقْعَدٌ خشبي مُتهدّل ومتهلهل، ولكن صلب يحتمل أوزان البشر
كانت رائحة المكان رطبة، ليست بكريهة ولا لطيفة، إنما مقبولة
ومن بين كُل شيء، صوتُ تسبيح اليراعات النائمة، تناغم مع همهمة الرياح الخفيفة، وخُطِفَ نبضُ الحالِم .

LUDUS حيث تعيش القصص. اكتشف الآن