كانت عيناه مركّزتان على المنزل قبل أن تنحرفا قليلا باتّجاه الأشجار، هناك ألوان زاهية جدّاً تشعّ من بين تلك الجذوع الضخمة. بدت له كحائط سميك لا يمكن اختِراقه، لكن فضوله قاده إلى فرقة صغيرة بين جذعين استطاع إدخال جسده المُعتدل فيها بعد أن أدخل شقّه الأيمن أولا، ليتوقّف لحظة و تُحبس أنفاسُه بُرهة من الزّمن لمّا رأى بحر الأزهر الملوّن الذي يموج بفعل الرّياح القليلة أمامه، عاد للتّنفّس بعد أن أطلق زفرة انبِهار و هو غير قادِر على أن بطرف بعينيه إلى أن آلمتاه، هل هذه الأشياء لا تزال موجودة في هذا العالم حتّى؟!!.
طرف بعينيه فلم يتبدّل المشهَد أمامه، إنه لا يحلُم و هذه الأزهار أمامه حقّاً، غزَت وجهه ابتِسامة صغيرة ظهرَت معها أسنانه الأماميّة و تقدّم خطوة واحدة كمَن يُساق إلى النّعيم مسلوب اللّب، هبّت رياح خفيفة حملَت إليه روائح الأزهار التي -رغم اختِلافِها- شكّلَت أروع عِطر قد تنشّقه يوماً، لكنّه توقّف مع توقّف الرّياح لينظُر عن يسارِه و يُشاهِد السّخص الجالِس يُراقِب الأزهار بسكون، ارتفَع حاجباه بدهشة فهو لم يُلاحِظه، تراجعَت خطوته و أدار رأسه لينظُر لذلك الشّخص، من هيئته العامّة تبيّن أنه امرأة، ربّما فتاة، كان نظرها ساهِماً في بحر الإزهار أمامها و قد انعكَسَت ألوانه على عينيها الهادئتين، كانت تجلِس بهدوء شديد كتِمثال نُحِت على تلك الوضعيّة، تراجَعَت قبّعة سترتِها قليلا بسبب الرياح لتكشِف عن مقدّمة رأسها و وجهِها من جانِب.
أيعقَل أنها لم تنتبِه إليها بعد كلّ هذا؟! لكنّه ابتلَع سؤاله ما إن أدارَت رأسها ببطء باتّجاهه و نظرَت إليه بهدوء دون أن تجفَل أو تُظهر أيّ تعبير، في الواقِع هو من جفل ليتراجع خطوة و قد قابلها بجِذعه، أطالَت النّظر إليه كأنها لم تفاجأ بوجودِه، و هذا مُستحيل لأنّه إذا تجاهَل كونها وحدها و يجب أن تشعر بالخطر من وجود رجل غريب، فهو لن يتجاهل كونه ما زال يرتدي زيّ الجيش -الذي لم يخلعه من ذكاءه المُفرِط!- و الذي لم يخفى على أيٍّ من أهالي يوليا.
تحديقها المُستمرّ بِه و عيناها المثبّتتان عليه، قد وتّره ذلك، إنّها هادئة بشكل مُريب، هل يمكن أن يكون كميناً من نوعٍ ما؟! هل علموا بوجودِه؟!! فكّر بهلع، ليكُن! إذا تمّت مهاجمتُه فلن يتردّد في القتال، و إن مات فلن يندَم على حياتِه التي عاشها، ما عدا المعارِك التي خاضها و الذين قضوا نحبهم فيها بلا سبب.
لكن لم يحدُث شيء، و الفتاة ما زالت تنظُر إليه بلا تعابير و لم تتحرّك قيد أنمُلة، حار فيما عليه فِعله، تلفّت بكلّ الاتّجاهات فلم يجِد سواهُما في المكان، أعاد نظره إليها فوجدها ما تزال تنظُر إليه، قرّر استِجماع شجاعتِه و القيام بأمر قد يُرسله إلى حتفِه، لذا -رغم توتّرِه- فَرَد أسارير وجهِه و رفع يده بتردّد ليُلوّح لها تلوِيحة صغيرة و يهتِف بصوتٍ متحشرِج:
" مرحباً!"
إنّه أغبى إنسان في الوجود، هكذا فكّر في تلك اللحظة، لكن و على عكس ما توقّع أن تطلِق عليه النار، رفعَت يدها اليُسرى لتلوّح بهدوء و بِلا تعابير، دون قول شيء.
أنت تقرأ
الرباط الدامي
Mystery / Thriller- ما هو الذي يجعلُنا بَشَراً بِرأيك؟ - لا أدرِي... رُبَّما تِلك التَّناقُضات و الصِّراعات التي نخُوضُها مع أنفسِنا و التي تُحدِّد ما نحن عليه، ففِي نفسِ الشَّخص تجِد الخير و الشَّر، الكُره و الحُب، اليأس و الأمل، السَّعادة و التَّعاسة، الحنِين و ال...