الفصل الثالث
"وماذا لو علمت أن هناك من تقدّم لخطبة أميرتكَ ماذا سيحدث لك وقتها يا ابن أبيك؟"
هبّ جودت من مكانه وهو يصرخ:"ما الذي تقوله أبي؟ من هذا الذي تجرّأ ليطلب عصماء والحي بأكمله يعلم أنها لي؟!"
"إنه ليس من الحي جودت، اهدأ بني ما بك؟ هل أخبرتك أننا سنزوّجه إياها؟ هو تقدّم كأي رجل فلا تُحَمّل الأمر أكثر مما هو أنا فقط أخبرتك حتى لو تناهى لسمعك الأمر لا تقتل من يخبرك بتهورك الأعمى هذا"
كاد جودت يشد خصلاته قهرا وهو يقول لوالده:"ألست متفقا مع عمي على زواجنا؟ لا أفهم لماذا التأخير؟ لماذا لا نعقد القران حتى لا يتجرّأ أحدهم لطلب يدها مرة أخرى"
زفر والده بضيق وهو يهتف:"ما بالك جودت كالثور هكذا؟ اهدأ قليلا بني، إنها فتاة ومن الطبيعي أن يأتي لها عرسان وطبيعي أيضا
أن نرفضهم ونخبرهم أنها لابن عمها"
هدأ قليلا وهو يستمع لتأكيد والده أنها له ليهتف بجنون:"باليوم الأخير للاختبارات سنعقد القران أبي وبعدها نحدد موعدا للعرس فأنا لن أستطيع الصبر أكثر من ذلك"
رمقه والده بغضب وهو يغادر الغرفة هاتفا:
"ما سنتفق عليه وعمك هو ما سَيُنَفّذ جودت"
*********
(الماضي)
تقف أمام باب الشقة دموعها متجمدة بمآقيها.. تتقبّل العزاء بوفاة والدها بصمت وهي ترى مصمصات الشفاة والتساؤلات التي بأعين الجيران..
كيف سيعيشون الآن وقد توفّي العائل الوحيد لهنّ؟!
ماذا سيحدث وقد ترك فتاتين بعمر الزهور دون سند أو عائلة تحميهما مُر الحياة؟!
ونفس التساؤلات كانت تجول بذهن فلك ووالدتها وحتى أختها الصغيرة فريدة وكل منهنّ تحمل هم موت السند والأمان..
"فلك! لماذا تقفين هكذا صغيرتي؟"
أيقظها صوته من شرودها فرفعت بصرها له.. هو وحده دون غيره مَن منحها المواساة والطمأنينة بوجوده بحياتها وبكلمة صغيرتي التي تحبها منه دون سواه..
"سلْمان.."
همست باسمه ليتألّم قلبه ثم يربّت على رأسها قائلا:"لا أريد رؤية دموعكِ مرة أخرى فلك، أنتِ فتاة قوية ونحن معكِ لن نتركك"
"ألن تتركني؟"
همست وهي تتوسّله أن يؤكّد وجوده معها، يؤّكد أنه سيظل ولو جار بنكهة أخ سترضى ولكن فقط فليكن معها..
"لن أفعل صغيرتي، لن أترككِ حتى أسلِمكِ لعريسكِ وأنبّهه أن يحافظ عليكِ وإلا فليواجهني أنا"
وقتها لم تعرف هل تشعر بالسعادة لكونه سيظل معها أم الحزن لأنه فقط محض أخ.
******
(الحاضر)"فللللللللك.."
صرخة فريدة المرعوبة على أختها جعلت سلمان ينتفض برعب وقبل أن يفكّر كان يركض على الدرج ليصل لشقتهم ويضرب
الباب بقوة وقد صعد خلفه عدة أفراد ممن كانوا يقفون معه وساد الهرج والمرج حالما فتحت فريدة الباب وهي تهتف برعب:
"أخي سلمان ساعدني.. لقد فقدت فلك وعيها ولا أعلم ماذا أفعل"
كاد يدلف للشقة لينتبه لمَن يتبعه من الشباب فوقف حائلا بينهم وبين الشقة وهو يقول لأحدهم:"فلتنادي أم فلك من منزلنا يا عصام سريعا"
أومأ عصام وهو يركض ليفعل ما طلبه سلمان في حين دلف سلمان بعد أن نبّه عليهم ألّا يدخل أحد منهم من أجل حٌرمة المنزل..
وجدها على الأرض ليئن قلبه وجعا عليها.. حملها برفق ووضعها على الأريكة وهتف بفريدة:"احضري عطرا لنحاول إفاقتها يا فريدة"
هرعت فريدة لإحضار العطر فيما رمقها هو بألم وهو يفكر:
(ماذا حدث للصغيرة لتصل لفقدان وعيها؟)
وبّخ نفسه أنه انشغل بالعمل ثم الخطبة ونسي الصغيرة التي أمّنه والدها عليها وأختها قبل وفاته.. كان يجلد نفسه بالذنب عندما عادت فريدة بالعطر ولكنها لم تفِق أيضا بالعطر ثم جاءت والدتها وهي تبكي ليهتف سلمان داخله.. الغبي عصام ماذا أخبرها الآن!
"فلك, ابنتي .. ما بكِ حبيبتي.. يا عزوتي وسندي انهضي، لا تتركيني كما تركنا والدكِ"
حوقل بداخله وهو يستمع لكلمات والدتها التي تشعره بالقهر على حالهن ولازالت وفاة الأب تؤثر بهنّ رغم مرور كل هذه السنوات..
"اهدأي خالتي فلك ستكون بخير إن شاء الله فقط سأنقلها للمشفى حتى نطمئن عليها أكثر, ربما انخفض ضغطها نتيجة ضغط الاختبارات"
قال سلمان محاولا تهدئة الأم وفريدة وهو يحمل فلك مرة أخرى ويهبط بها وخلفه والدتها ووالدته أيضا التي جاءت خلف أم فلك
وفريدة التي أغلقت باب الشقة خلفها ومازالت تبكي أخت بنكهة الأب والأخ والسند.
******
في المشفى
أفاقت فلك أخيرا وتم تزويدها بمحاليل فالضغط كان منخفضا بطريقة مخيفة ويبدو أن تغذيتها سيئة منذ فترة كما اتّضح من
التحاليل التي أجروها لها أن لديها أنيميا حادة (فقر دم)..
فتحت عينيها على وجوده لينبض قلبها بقوة قبل أن تشيح بوجهها عنه وهي تغمض عينيها مرة أخرى متذكرة حديث أختها عن خطبته والزينة والأضواء التي رأتهم وهي عائدة من المدرسة
"فلك.. صغيرتي"
اضطرت لفتح عينيها والنظر له بصمت فتابع بابتسامة حنونة كانت من أسباب وقوعها بحبه من البداية:"أقلقتيني عليكِ يا صغيرة, لماذا تهملين بطعامكِ هكذا؟ كل هذا من أجل الثانوية؟!"
غمزها مشاكسا لترغم نفسها على الابتسام وعندما حاولت التظاهر بالمرح والرد عليه لم تستطع بل سالت دمعة وحيدة من عينيها لتغمضهما مرة أخرى..
اقترب منها هامسا:"أخبريني ما بكِ لتبكي بهذه الطريقة فلك؟ ألم نتفق أنني أخيكِ من قبل؟ هيّا أخبريني ماذا يحدث معكِ؟"
شهقت تحاول التماسك وهي تشعر نفسها ضعيفة وتثير الشفقة.. حدّقت به بصمت قبل أن تقول:"أعتذر على قلقكَ, ومبارك لك"
تهدّج صوتها بنهاية الجملة فتهنئته كانت فوق احتمالها بالفعل ..
ظلّ يحدّق بها عاقدا حاجبيه لتضربه الإجابة بغتة!
أدرك أنه سبب من أسباب عِلّتها إن لم يكن هو السبب الوحيد فيما يحدث معها.. كيف لم ينتبه لهذا من قبل؟!
(ويحك يا سلمان هل كسرت قلب الصغيرة بخطبتك؟ هل حقا انهارت بهذا الشكل فقط من أجل خطبتك وأنت الذي رأيت مشاعرها محض مراهقة وستنتهي سريعا؟!)
همس بإجابة لتهنئتها وهو يشعر بالارتباك لا يعلم كيف يتعامل مع هذا الوضع!
يخشى أن يزيد جرحها بكلمة أخرى منه فقرّر الخروج والابتعاد عن دربها هو سيسافر قريبا من الأساس فلماذا يجرح الصغيرة ويتسبب
بإحراجها أكثر.. ستنساه وتنسى تلك المشاعر التي تسبب لها الألم وتسخر من حالها عندما تتذكر أنها أعجبت بالجار الذي يكبرها بخمسة
عشرة سنة!
نهض بارتباك وهو يخبرها أن تجهّز نفسها فسيعودون للمنزل بعد انتهاء المحلول.
******
واقفة بالمحل الذي حصلت عليه أخيرا لتبيع ما تصنعه يداها بدلا من الوقوف بالشارع على مرأى ومسمع جميع الناس تتعرّض ربما
للمضايقات تارة وتارة أخرى لعروض زواج واهية وآخرها كان عرض زواج عرفي وكم صدمها نظرة الناس لها!
أن تكون وحيدة مع فتاة صغيرة أي أن عِرضها مباح للجميع فلا زوج يظلّلها بظلّه ولا أخ يحميها من الأعين التي تنهش بها وحتى
ارتدائها النقاب لم يعفها من ذلك!
زفرت بقوة وهي تركّز على ما تفعله فتلف الطعام جيدا حتى لا ينسكب عندما تسّلمه لصاحبته التي ستأتي قريبا..
ابتسمت بحنو وهي تتذكّر أن فكرة صنع الطعام وبيعه كانت من صغيرتها الذكية همسة, هي من اقترحت عليها أن تفعل هذا حتى لا تظل بالخارج مدة أكبر عندما مرضت أكثر من مرة وظلّت الكثير من الوقت بالفراش ليظلّا دون دخل خاصة بعدما منعتها أن تذهب للبيع مرة أخرى وتترك المدرسة كما فعلت تلك المرة.
خاصة أنها لم تجد عملا يناسبها فلا يوجد عمل بمؤهّلها الجامعي يناسب ظروفهما ورغبتها بالتواجد أكثر وقت ممكن بالمنزل من أجل همسة..
"لماذا لا تصنعين الطعام وتبيعينه حسناء؟ وبهذا لن تضطري للوقوف بالشارع طوال اليوم فقط عند التسليم وربما نجد محلا صغيرا يكون منفذ التسليم ما رأيك؟"
اقترحت همسة لتعجب حسناء بالفكرة وهي تقول:"فكرة جيدة همسة, ولكن كيف سيعرفني الناس لأطبخ لهم؟"
صمتت قليلا قبل أن تقول:"سنخبر من نعرفهم بالحي أولا ثم بعد ذلك نحاول الحصول على هاتف ذكي ونكوّن مجموعة على الفيس بوك والانستغرام والواتس آب أيضا.. كل ما يتاح لنا من وسائل الاتصال الاجتماعي وهكذا مرة بعد مرة سنجد من يشتري"
أومأت حسناء وهي تفكر أن الأمر يحتوي على صعوبة ولكنه يستحق التجربة وقد كان.
واليوم ثاني يوم بالمحل الذي قامت بتأجيره من أجل أن يكون منفذ للبيع بعد ثلاث سنوات مروا عليها كان صيتها قد ذاع وأحب الناس طعامها وخاصة الحلوى التي تشتهر بها وتتفنن بصنعها.
"السلام عليكِ"
قاطع أفكارها صوت رجل جاد جعلها ترفع رأسها لبرهة قبل أن تخفضها غاضّة بصرها في الحال وهي ترد السلام:
"وعليكَ السلام, بِمَ أخدمكَ أخي؟"
"في الواقع لدي وليمة مفاجئة اليوم وأريد طعام غداء كامل مع الحلوى فهل يمكنكِ تحضيرها وبالسعر الذي تطلبينه؟"
قال الرجل بهدوء فصمتت للحظات قبل أن تسأله حسناء:"حسنا ما هو عدد الأفراد؟ ومتى عليه أن يكون جاهزا؟"
"خمسة أفراد وعليه أن يكون جاهزا الساعة الخامسة على أقصى تقدير"
أجابها بهدوء قبل أن يسألها:"هل يمكنكِ تجهيزه؟"
رمقت الوقت بساعتها قبل أن تحسب عدة أشياء ثم قالت:"هل تريد شيئا معينا للغداء؟ وما نوع الحلوى الذي تفضّله؟"
"أي شيء عدا الأسماك فلدي حساسية منها.. والحلوى كنافة وجلاش محشو قشطة"
رفعت حاجبها وهي تفكر.. هو يعلم بالقائمة لدي بكل تأكيد فهذان الصنفان أكثر الأصناف التي يطلبها الناس وتقريبا يوميا أصنعهما..
همّت بالإجابة حينما دلفت همسة راكضة على غير عادتها الهادئة وهي تقول:"خالتي سأذهب لفلك فقد علمت أنها كانت بالمشفى"
"على رسلكِ همسة"
وبّختها بلطف من أجل ركضها قبل أن تقول بقلق:"ما بها فلك؟ ألم تكن بخير عندما تركتيها بعد الاختبار أمس؟"
"أجل ولكني لا أفهم ماذا حدث معها فقط أخبرتني فريدة أختها أنها كانت بالمشفى لذا..."
قاطعتها وهي تومئ موافقة:"اذهبي ولكن لا تتأخري وسآتِ إليكِ لأراها أيضا بعدما أنتهي من العمل"
أومأت همسة سريعا وهي تلتفت لتغادر عندما رأت الرجل الواقف مع خالتها والذي لم تنتبه له عندما جاءت مسرعة..
"عمي رياض؟!"
همست باسم رياض ليرمقها بنظرة ذات مغزى فكبحت ابتسامتها وهي تشير له بعينيها أن استمر قبل أن تغادر تاركة إياهما معا وهي
تشعر أن رياض يحب خالتها ولن يتخلّى عنها لرفضها إياه قبل حتى أن تعلم شخصيته.
*****
خطبتَها؟!
هل سرت حقًا في طريقِها؟
ضاحكتَها؟!
أسمَعتها حلو الكلامِ فأمتزج صوتكَ بصوتِها؟
أحببتَها؟!
ونسيتَني أو ربما كنت مجرد أطيافٍ فنسيتَها!
كم مرة غازلتَها؟
كم مرة شاكستَها؟
كم مرة أخبرتَها بكلماتِ الحبِ فأخجلتَها؟
هيا أجبني.. أمّا تراكَ تدري عني؟
أم ربما قررت البُعدَ لأنك تدري؟
خاطرة على لسان فلك للجميلة هند فايد
أنت تقرأ
رواية هل تدري عني بقلمي حنين أحمد (ياسمين)
Romanceداخل أحياءنا هناك العديد من القصص تنتظر فقط أن نزيح الستار عنها.. فها هي همسة الفتاة الشجاعة ذات الكبرياء تساعد خالتها لتحمّل ظروف المعيشة الصعبة.. وها هي حسناء تعتني بابنة أختها وتعيلها في ظل غياب السند.. وهناك فلك الواقعة بحب جارها الذي يكبرها با...