ذكريات.
.
.
.
هل أنا المجنون وسط عالم عاقل، أم أنني العاقل الوحيد وسط عالم من المجانين؟
.
.
.
.
.
.
عندما أسدل الليل ستاره الأسود، وانتهت جميع مسرحيات النهار المبتذلة، كانت ملاك تقف أمام باب منزل مهترئ، لعب الزمان لعبته معه، وصارت جدرانه الخشبية تكشف أكثر مما تستر، كما هي حال ملابس معظم الفتيات في عصرنا، تأملته بعينين دامعتين، هذا المنزل الذي يدس جميع ذكرياتها، هنا عاشت أصعب اللحظات، تلك المشاهد القاسية التي أجبرت على رؤيتها وهي لم تتجاوز الخامسة.
أخذت الذكريات تمر بذهنها كأنها شريط فلم غير مفهوم، منقوص الأحداث وغموضه يرعب النفوس:"وحش بقوام ضخم يقطّع اللحم وهي تبكي بصمت وتستمع للسمفونية التي يعزفها ذلك الكيان، صراخ، أنين، بكاء وصوت تقطع اللحم وتدفق الدماء."
تذكر كل ذلك كان صعبا بالنسبة لها، بقيت تذرف الدموع بحرقة، ثم أخبرها عقلها الذي أوشكت على فقدانه أن تلج البيت وتتفقده، بخطى مترددة وأنفاس متقطعة، فتحت الباب الذي أصدر صوتًا يدل على قِدَمِه وهشاشته، أدخلت رجلها اليمنى بحرص وهي تحبس شهقاتها المتألمة، كان كل شيء كما تركته، رغم مرور أكثر من عشر سنوات على مغادرتها له، إلا أن الأثاث لازال كما كان، إطار يحمل صورتها مع والديها معلق على الجدار وقد غطى الغبار ملامح الأبوين كأنه يذكرها بأنه لم يعد لهما وجود البتة، الأريكة ذات اللون القرمزي القاتم لازالت تتوسط الردهة الواسعة، وحتى الفوضى التي أحدثها الوحش لا زالت على هيئتها، عندما وقعت أنظارها على الطاولة التي قطِّع والداها على سطحها فرت شهقة فزعة من ثغرها، وتراجعت بضع خطوات، تعثرت قدمها فسقطت بينما ارتطم ظهرها بخزانة قديمة، آخر ما توقعته أن الخزانة ستُفتح.
وقفت بصعوبة تجفف دموعها بعنف وألقت نظرة على ما وجد بداخل الخزانة، بقيت تتأمله وتحاول تذكر شيء ما، وليتها لم تفعل.
_______
صوت الآلات الطبية المزعج، طفلة الخامسة مستلقية على السرير والكل يأمل أن تستعيد وعيها، الكل؟ قصدت أختها الوحيدة التي تركها لها الزمن رأفة بها، تلك الحادثة جعلتها تعاني من نزيف داخلي، وهي في غيبوبة تسرح في أحد العوالم الأخرى، دخل عليهما فتى السابعة عشر رامي"آنسة ملاك، أحتاج اسم الطفلة الكامل وبعض المعلومات لملء استمارة ما،طلبت الممرضة أن أملأها"نظرت إليه بصعوبة ثم حولت أنظارها المتعبة نحو أختها ونطقت"إلين..إلين محمد، خمس سنوات، يتيمة الأبوين"
دون الفتى المعلومات بسرعة وغادر الغرفة مجددا لتختلي بأختها الغائبة عن الوعي.
