المنعزل

19.2K 63 23
                                    

غيوم
الجزء الاول
المنعزل

تلبدت السماء بالغيوم، تحجب الرؤية وتلقي بظلالها على الأفق، كأنها تبشر بما هو قادم. تلك الغيوم تحمل معها احتمالات لا يمكن التنبؤ بها؛ قد تجلب المطر الهادئ الذي يروي الأرض، أو السيول الجارفة التي تكتسح كل شيء. ربما تخفي خلفها إعصارًا يهز أركان الوجود. الحقيقة الوحيدة التي تظهر هي أنك، مهما حاولت، لن تستطيع معرفة ما سيأتي.

    •    "بقالك خمس سنين بعيد عن الناس، ومش عاوز تساعد نفسك، مش عاوز تندمج في المجتمع تاني."
قال الدكتور فضل بنبرة هادئة تحمل في طياتها الاستفهام والقلق.

أحمد رد بلا اكتراث، بينما نظر إلى النافذة المتلبدة بالغيوم: "أنا كده مرتاح أكتر يا دكتور."

    •    "أحمد، المفروض إنك بتجي هنا عشان أقدر أساعدك، بس الواضح إنك مش عاوز تساعد نفسك."

ابتسم أحمد ابتسامة تحمل في طياتها السخرية وألمًا عميقًا: "تساعدني؟ معتقدش إنك تقدر تساعدني يا دكتور... هتساعدني إزاي؟ هتقدر ترجعني للماضي؟"

    •    "لا، مقدرش أرجع الماضي، لكن بحاول أخليك تشوف الحاضر والمستقبل."

ضحك أحمد ضحكة قصيرة، لكنها كانت تحمل خلفها وزناً ثقيلاً من المرارة: "مستقبل؟ ههههههه... أحيانًا الماضي بيقتل المستقبل، يا دكتور. عموماً، أنا مش باجي عشان تساعدني، أنا باجي عشان أحتاج حد أتكلم معاه من وقت للتاني، ومش حابب يكون صديق أو قريب. عشان كده اخترت إني لما أحب أتكلم، أجي هنا وأدفع تمن الكشف... كأن الكلام ليه تمن."

الدكتور فضل استمع لكلمات أحمد بهدوء، بلا شعور بالإهانة. فقد اعتاد ردود أفعال مرضاه، حيث تعلّم من خبراته الطويلة أن يتعامل مع هذه المواقف بصبر وحكمة. كان الدكتور فضل محروس واحدًا من أفضل الأطباء النفسيين، وقد عالج الكثير من المرضى. لكن أحمد رضوان كان حالة فريدة؛ شاب شديد الذكاء، ورغم ذلك، كان من الصعب جدًا اختراق حصونه النفسية. منذ أن بدأ علاجه معه، لم يستطع فضل اكتشاف الكثير عن حياة أحمد، لأنه كان يمنح معلوماته بقدر محدود، ويتحدث فقط عما يريد.

لقد شخّص الدكتور فضل حالة أحمد بأنها "اضطراب ما بعد الصدمة" أو "اضطراب الكرب التالي"، وهو اضطراب نفسي يحدث نتيجة التعرض لحادث صادم أو مشاهدته. ربما كان أحمد قد مرّ بتجربة أقرب إلى الموت، أو شهد شيئاً لا يمكن للذاكرة التخلص منه بسهولة. من بين الأعراض التي تظهر على مريض اضطراب ما بعد الصدمة: الذكريات الحية التي تلاحقه بلا هوادة، الكوابيس المتكررة، اللامبالاة العاطفية، عدم القدرة على الانخراط في الأنشطة اليومية، نوبات من الغضب الشديد، وصعوبة في النوم. والأكثر أهمية، هو أن المريض عادة ما يتجنب الحديث عن الحادث الذي تسبب في الصدمة.

    •    "ابتسم الدكتور فضل وأخذ نفساً عميقاً: "ده سبب جديد لأهمية الفلوس، مكنتش أعرفه... طيب، مش ناوي تحكيلي عن الحادث اللي مريت بيه؟ كل اللي أعرفه مجرد قشور."

غيومحيث تعيش القصص. اكتشف الآن