أرسل العمدة سعيد لإحضار طه من الحي المجاور. فبعد أن أتاهم الرجل الفقيه شرحوا له الأمر, وبينوا له المعضلة. فأستفتح الرجل كلامه بالبسملة ثم الصلى على الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم, ثم سأل الله أن يعينه على قول الصواب, ثم قال:
لكم في العرف قوانين وسنن, وجاء الدين لتهذيب تلك الأعراف, فأبقى على الصالح, وأستنكر الطالح. ولكنكم على خلاف الذين جاءهم الرسول, فأنتكم تسمتدون أغلب أعرافكم من السنن والأيات, أفعال السلف الصالحات. ولربما أنكم أخذتمون بعض الشرائع أخذا عقيم, الكثير أخذ الأقول ثم أولها كما يهوى, وتلكم لهي بالضالة الكبري.
أما ما يخص أمركم, و كما أطلعت عليه, وعلى حالة الفتاة من الأهلية والقرابة الأسريه لكم. فأقول لكم أن الشرع, وكل على أمرها أبيها, ثم الذي يليه في حال غيابه غياب أبدي, او وكيله عن تعزر حضور. ثم على وليها إستشارتها, والأمر يعود عليها في الأختيار. كما أن عليكم أن تعطوها الأمان, في حال مخالفة ما تهوى أنفسكم, فالدين كله لا إكراه فيه, فكيف يكون في الزواج وهو من الصغائر مغارنة بمسائل أكبر منه فيه.لقد قام بإيضاح الأمر خير إيضاح, حتى لا يظن الولى أنه الذي يختار بالإكراه. كان سعيد مبسوطا بصدى تلك الكلمات تطرق مسامع إخوته الذين أستاءو شر إستياء. الخطوة التالية لتسوية الخلاف, هي إستشارة الفتاة كما أخبرهم العمدة بذلك. ولذلك الأمر ذهب سعيد و أخيه الأكبر ليستشيروها في من ستختار. وكان ردها أنها تريد إبن عمها مصعب.
عاد سعيد منكسرا من الداخل متظاهرا بالفرحة. كما فرح إخوته جميعا, وأيضا تأسفوا له بأن الأمر لم يكن يستحق كل ذلك, فكان عليهم تقبل فكرته و إستشارتها دون أن يخوضوا فيما خاضوه من تصرفات صبيانيه. تم الأمر وحسم الخلاف على أعين الملأ. أقيم صلح صغير, أحتضن فيه الأخوان بعضهم, وتنفسوا الصعداء. الآن آن الآوان على سعيد البحث عن طريقة لإخبار عبدالكريم بما آل إليه الأمر.
ستتسائلون عن الذي فعلته مها. لن أخفيكم سرا لم يكن ذلك محض إرادتها. لا أمها, ولا هي كانوا يدرون بأن القوانين تغيرت في بيت العمدة وحل مكانها ما هو أفيد. حيث أن عائشة لما رأت ما آل إليه الأمر من خلاف, وجملة الخصامات التى تتربص بهم, خافت أن تلقي بزوجها وأبنائها في حرب لا طاقة لهم بها. سيفقد سعيد إخوته إن أختارت مها منصور, فهو لن يضحي بإبنته, وهي تعرف سعيد جيداً. لذلك تكلمت مع إبنتها في الأمر, بأن تختار إبن عمها, وترفع عن كاهل والدها ذلك الحمل الذي لن ينزله من على عاتقه مستسلما ما دام قلبه ينبض.
ليت عائشة كانت تعلم أن الأمر تغير, واليوم قوانين القرية ليست كقوانين الأمس. ولكن كيف لها أن تعلم, وما فعلته هو ما ستفعله كل من نساء القرى, حتي لا تجعل من أبنائها من دون بنو عمومة. حيث أن الحياة في القرى والفرقان تقوى شوكة الفرد فيها وتزيد مكانته بأهله وإزدياد مسانديه. لذلك ليس من الحكمة أن تختار عائشة الإنفلات عن القطيع. وهو كان أدني ما سيحصل, فلن يسلم حتى آل منصور من ذلك إن أختارته. رأت أن الصواب في إبن بشير و عملت به. فمهما كان الأمر, كيف لنا أن نلومها على خوفها على أسرتها, وهي مجرد بشر لا يعلم ما الذي يدور في الجانب الأخر.
مها حينهما أستسلمت والدتها, توشحت بالظلام دون تردد, ثم زينته بإبتسامة. و الآن تقيمم الحداد على حبها, ولم تجد من يعذيها. لوحدها و ظلمة تحيط بها وأخرى تحفظت عليها في الداخل. أصبحت تحث نفسها التي فيها وبداخلها تسكن: أيها الذي سكنت القلب, هل ذلك العذاء يليق بمقامك؟ هل لا زالت تمدك نفسي بالغذاء أم تمردت عليك وهجرتك؟ خبرني ما علتك؟ ألم تعدني بأنك ستكون في كل النبضات حيا كنت أم ميت الآن ماذا دهاك؟ ... أنا من قتلك, إن كنت تريد القصاص فأقتص مني وليس من أحد غيري. هم من رمى, وأنا من وجهت إليك. أيها الميت سامحني, سامحني. وهكذا رفعت الفتاة الحداد, الذي لن يرفع إلا ظاهرا.
منصور كان يفكر في أنه عندما يأتي من المدينة التي تم قبوله فيها لدراسة الثانوي العالي في إجازة الفصل الأول من سنته الأولي سيقيم مناسبته, وفي الإجازة الكبرى سيقيم الزوج. ثم أشار الى مكان أمام خلوته ليكون فيه بيته, وتلك الخلوة يجب أن تتحول لمطبخ, رغم أن كل زكرياته فيها. لكنها شئ ولى وقته, ثم لابد من التغير ومواكبة الواقع, والإستجابة لتقلبات الحياة. أنه سيتركها لتفعل بها نار الطبخ ما تفعله بكل المطابخ ولن يبالي بذلك, فهو حينها سيكون مع مها, وستطفى ناره. و لتحقيق مبدأ التساوي الذي يؤمن به الفتى, فلابد من إنتقال الحريق لمكان أخر ...منصور ليس على طبيعته. فهو لا يريد الإقتناع بالأمر, ويحاول قدر الإمكان إبعاد تلك النار التي أكتوي بها عندما أخبره أخيه بأنه لم يكن له نصيب في مها, وعليه إختيار فتاة أخري إن كان مصر على الذواج. الفتي يعتبر ذلك حلما, رغم أنه لم يكن مثل حلم القلعة النضيرة التي نادته فيها. لكنه يصر بأن ذلك الخبر الذي وصله حلم, ولابد للأحلام بأن تنجلي وينكشف الواقع. لكن الواقع الذي لن يتم رفضه فيه من قبل أهل مها لم يحل بعد.
أستسلم الفنى أخيرا. لم يتملص عن حبه لمها, فهي لم تفارق خياله, بل إعترف بأن الذي يحصل ما هو بالحلم, أنه واقع, والواقع يجب أن يعاش. أحضر المسجل أدخل الكاسيت, أغلق عليه, ثم ضغط على زر التشغيل, إذ بالفنان أبوعركي البخيت, بصوته الحزين, يتغنى:
(في الليلة ديك ...
لا هان علي أقسى وأسامحك ولا هان علي أحز عليك.)
ثم بعد إنتهاءها أخرج الكاست وأدرج أخر أذ بمصطفى سيد أحمد يتغنى:
(في الأسى ضاعت سنيني
فإذا مت فأذكريني.)
ثم أخر, ثم أخر ... كان الفتي يعاني من الضياع, وكيف لمن ضاعت من بين يديه مها بألا يضيع؟. فأصبح يغزي خياله بالعلوم وإستفهامات الطبيعة, لو تنسيه مها, ولو فقط خففت له بشغلها حيز من تفكيره الذي تسيطرت عليه مها بجنود حسنها وخلقها. سيفعل كل ما بوسعه حتي لا يضيع العلم, ويكون لا معني لحياته. فمن هو من غير تلك الحلمين؟ فعلا كان منصور ينقسم على شيئين يدلن عليه: مها والتعليم, فمها ألهمته الفن, والتعليم ألهمه الحياة التي ينتمي إليها والواقع المغاير لما عليه أهله وذويه... يتبع ( واصل الجذء البعده و ماتنسي دوس على النجمة وعلق 😍🤗) ورح
أنت تقرأ
أنت مائي و إنتمائي
Romanceالرواية من وحي خيال الكاتب و كذلك الشخصيات. بقلم: محمد علي محمد مضوي. في قرية من قرى السودان النائية عن العاصمة كان هنالك شاب إسمه منصور وبنت إسمها مها, لا يقربا بعض إلا من ثلات طرق: عائلة منصور وعائلة مها ينتمون لنفس القبيلة, وكل العائلتين تظل...