ما هي إلا شهرين قضاهن منصور في عقر دار مها, بالقرب منها, إلا أنه بعيد كل البعد من نيلها. جاء وقت رحيله للدراسة. ذهب لنفس المدينة التي منها عائشة والدة مها, نزل في الداخلية. كون صداقات من أبناء القرى والمدينة, فماهي إلا أيام فأصبح مشهواً. حيث أنه صنع ربابة وأصبح يغني في النشاط الصباحي ويشارك في محافل المدرسة. الآن يمكنه أن يغني محبوبته دون أدني خوف. أعجبن به الفتيات عندما لمحنه في إحد المحافل المشتركة بين مدرسة الأولاد والبنات, أبدع رغم أنه كان خائفا وخجلا. كان مبدعا وجميلا, فسرق قلوبهن كما فعل بمها. إلا أنهن لم يكن كمها التي أحبته بصدق وإخلاص, فالأولى أحبته قبل أن يكن شيئاً, و الأخريات أعجبن بحسنه الذي لولا فنه الممتد إلهامه من تالأولى لما عرفنه. لكنه لم يكن يبدع ليكسب قلب إحداهن, بل ليفرغ ما يملئ قلبه, وأستحوذ على تفكيره. جائته إحداهن تمشي على حياء, في إحد المحافل بحجة التنسيق, لكنها أفرغت على سمعه كل ما بها من صبابة. فكان يسمعها ويتزكر مها. فعندما أكملت قولها, رد لها بإبتسامها لم يعقبها حرفاً. ثم حدث فسه متمنياً لو كانت مها بتلك الجراءة.
ذات يوم من الأيام, وجده سعيد في سوق المدينة. فعزمه على إحد المطاعم, ثم بعد ذلك طلب منه مرافقته غدا الخميس لأهله ونسابته,, ليتعرف عليهم. فإن أحتاجهم يوما ليذهب لهم. فهو لم يكن يملك أحد في تلك المدينة, كما الكثير من الطلبة الذين معه. الداخليه هي بيتهم و و ساكنيها أهلهم.
ذهب معه, رحب بهم القوم, وطلبوا منه أن يأتيهم كل نهاية إسبوع, بعد أن رفض البقاء معهم بحجة أصحابه ورفقته. وأنه من الإداريين في شئون طلاب الداخلية. حتى أنه وجد مجموعة من شباب ذلك الحي معه في نفس المدرسة النموذجية. فأحسنوا إيناسه والترفيه معه, طول الفترة التي قضاها معهم. وقبل عودته تحدث معه سعيد طويلا, أخبره بتفاصيل ما حدث, وأنه كان يتمناه لإبنته لولا الذي حصل. ثم بعد ذلك طلب منه أن يهتم بدراسته. كلمات سعيد أشفت الكثير من قلب الفتى. فأصبح يدرك بأن مها ليست من رفضته, كما سمع رفاقة في القرية يتحدثون. بل كان قولها خوفاً مما كان متربصاً بأسرتها من تفكك. جعلت تلك الكلمات جروحه تستسلم أخيرا للتماثل بالشفاء. لكن الجرح الذي أحدثته مها لتخرج من قلب الفتى من الصعب ملائمته. لقد تركت خواء محال إمتلاءه. عاد منصور لرفاقه مبتسما لسان حاله يقول معاتبا للظروف: كم تمنيتك لي نسيبا.أكمل منصور سنه الأولى في الثانوي وقبل نهاية سنته الثانية ترك الدراسة. لم يكن ذلك محض إرادته, ولم تمارس عليه أسرته ضغوط, بل أعانوه في المواصلة. كما أن مها و مهاتاته بها لم تكن السبب. المنهج الركيك, الذي كان يبغضه أيما بغض, لم يكن سوى عامل مساعد لتركه الثانوي. كان يراجع دروسه فقط عندما تلوح الإمتحانات في الأفق, لم تكن له علاقة حميدة بالمادة العلمية المقدمة. كما أن إسلوب الأساتذة السلطوي لم يكن يعجبه. فكان يرى في نفسه شخصا حرا, وينظر للتعليم بأنه وسيلة لتحقيق تلك الحرية, فكرية كانت أو عملية. فقط التعليم يهذب تلك الحرية ويضبطها بقوانيين مقنعة لكل ذو لب.
لكن كل ذلك كان غائبا, الأستاذ كان يضع نفسه موضع الإله الأمر الناهي من غير أي مبرر لأفعاله وقوانينه. المادة المقدمة كانت تيئيسية أكثر مما هي تحفيذيه. الإسلوب المنتهج لتقديمها تشمئذ منه الأنفس. إلا أن بعض العناوين كانت تستهوى منصور, وتشده ليستمر. كانت يطمئن نفسه بأن العلم غير ما هم عليه تماما. ولكنه لم تكن بيده سلطة لتغير ذلك الفهم. كما أن تقديمه نصيحة مفادها بأن نهجكم الذي تنتهجونه خطأ, تعد جريمة لن تغتفرفكان يأخذ العنوان ويتأمله, يدرسه بتحليلاته المنطقية الفقيرة. كان ينظر للذين يكتبون الكتب بأنهم أناس لا يشبهونهم. فكيف يشبهونهم وهو لا يستطع أن يكون مثلهم, ولم يخبره أستاذا يوما بأن الأمر ممكن. بل حتى المعلم كان يفتقر للأمل بأن يصبح كهؤلاء المشهورين. لكن تلك النظرة لم تدم طويلاً. . لذلك غادر تلك المدرسة. فكان يؤمن في قرارة نفسه بأن التعليم وسيلة رقي, وليس إنحطاط.
يظل الدافع الرئيس لتركه المدرسة ليس معضلة المؤسسة التعليمية لوحدها. بل كان مدير المدرسة وبعض من الطلاب يطلبون منه الإنضمام لهم, فأخبروه بأنهم جماعة دينة. لكنه في كل مرة يأتونه فيها يردهم, ليس لجرم أو ذنب أقترفوه, لكنه لم يكن يعرف ما الغرض الذي يريدونه من أجله. فعلى حسب منطقه الضعيف, فإن كان حقا يريدون إفادته في أمر دينه لأعطوة ذلك من دون طلب الإنضمام والتحزيب. ففي نهاية الأمر هو مسلم, كما أن كل الذين كان يعرفهم في تلك المدرسة مسلمون. بل كل من في تلك المدينة مسلمين. فإن كانت هنالك حوجة فهي في إيضاح الأحكام والأيات والأحاديث, وليست التقسيم السياسي الديني, ليكون سلما لتسلط مثل هؤلاء. فهو يعرفهم وهم أقل معرفتة بالدين من صاحب الزي الممزق الذي يدرس العلم في ساحات المدينة ليلا, على أضواء القمر تارة, وأخرى على ضوء لهب النار في أيام الظلام الهالك. فشتان بين هذا وهؤلاء. وقبل حلول إمتحانات نهاية الفصل الثاني, أشتد طلبهم له و إلحاحهم عليه لما يتمتع به من جمهور ومنطق. فقادر المدرسة و المدينة, متجهاً صوب الخرطوم.
كلما تقدمت العربة للأمام, كانت الحياة تبدو أكثر إختلافاً. المباني, و الطرقات, والخدمات, ... الساعة الخامسة عصراً, ينزلهم الباص في ميناء الخرطوم البري, لقد وصل الخرطوم, الحلم الأكبر. طرقات الأسفلت التي تتخلل الأحياء, اللافتات المضيئة, تاه الفتي, الأن لديه كم هائل من الإستفهامات من نوع: كيف صنع ذلك؟ ومن صنعه؟ ... لكنه بعد عدة أيام تنازل عن هذه التساؤلات, بعدما وجد إجابات أضافت صفراً في رصيده المعرفي. حيث كانت كلها تدل على المكان التي تباع فيه تلك الحاجيات, فكان الكل هنا يشبههم في القرى في تفكيرهم الإبداعي, و الصناعي و الإنتاجي. كل الإختلاف كان في مكان السكن و الخدمات ... فلا فرق تقني بين البدو و الحضر. كلهم مستهلكون.
أصبح الفتى الأن يبحث عن عمل, أي عملا كان يجني من خلاله ما يعينه على دفع أجرة اللكوندة, وتكلفت معيشته. ومن حسن حظه أشتغل في إحد البنايات الشاهقة, فكان صعوده إلي الطابق السادس والنظر لما يحيط به يفرحه أكثر من إستلام أجره الذي كان يأخذه.
وبعد أن عينه المسؤل عن تلك البناية غفيرا فيها, أصبح يصعد ليلا للأعلى ويتأمل المنظر. كان ينفخ صدرة كأنه ملك على شرفة قصره, جنة علي الأرض, بقع من نيران ملتهبة متعددة الألوان تسمى (مصابيح) تحيط به من كل الجنبات. سيارات صغيرة وجميل -لا تشبه التي تنقلهم و البضائع, بين القرية والمدينة- تتحرك ذهابا وإيابا. فقال في قرارة نفسه مشتكيا من جرحه القديم: ليتك يا مها معي, هنا في هذا العلى. سأغازلك وأداعبك بطريقة حضرية, سأقول لك كلمات الغرام, سأحملك بين أزرعي, سأخذك للنيل, سنقطف الزهور, ونحتف الحصى في النيل. سأسعدك .... و سأسعد... يتبع ( واصل الجذء البعده و ماتنسي دوس على النجمة وعلق 😍🤗) ورح
أنت تقرأ
أنت مائي و إنتمائي
Romanceالرواية من وحي خيال الكاتب و كذلك الشخصيات. بقلم: محمد علي محمد مضوي. في قرية من قرى السودان النائية عن العاصمة كان هنالك شاب إسمه منصور وبنت إسمها مها, لا يقربا بعض إلا من ثلات طرق: عائلة منصور وعائلة مها ينتمون لنفس القبيلة, وكل العائلتين تظل...