P36: شيطان متشبث

59 4 72
                                    

نسيمٌ جاف عبر حين كانت رائحة الربيع تملأ المكان ، قد مر شهر هادئ على غير عادة في رحلتهم منذ أن خرجو من الحدود الألمانية .
معظم القرى كانت فقيرة بشكل لا يسمح لهم حتى بالمبيت او شراء الطعام فيها ، تفشي الأمراض المعدية كان مخيفًا في المقاطعات ، لذا منزلٌ صغير في طرف القرية لن يجلب المشاكل ..
موارد الحياة لم تكن تسمح لهم بالاستمرار في العيش كنبلاء بعد الان ، قرروا التحول إلى قطّاع طرق بعد الحاح من باين رُفض في البداية ولكنهم اقتنعوا انها الطريقة الوحيدة ، اصبحوا يسرقون كل ما قد يحتاجون او لا يحتاجون اليه . الايام المملة هي التي لا تمر بها العربات كما هو اليوم الذي صادف دور كل من ميلا وباين ليقوما بالسرقة متسلقين احد الأشجار ويأخذان قيلولة ريثما تمر اي عربة
قطعت ميلا الصمت بينهما " أخبرني باين "
فتح عينيه ونظر إليها ليقول " ماذا ؟ "
" من هي بيل ؟ "
لم تتغير ملامحه بعد سؤالها ، نظر إلى الأفق أمامه لبرهة وقال بعد أن تنهد " أعتقد أنك ستُلحِّين لتعلمي "
برزت شفاهها للأمام بعبوس " بالطبع لن افعل فأنا لست مهتمة "
هربت منه ضحكة مكتومة وهو يعيد نظره إليها ثم قال " أستطيع سماع الصراخ في رأسك "
" هل ستخبرني أم ماذا ؟ انا بالفعل لا أعلم شيئًا عنك" قالت جملتها الاخيرة بعبوس زامةً شفتيها .
اطلق العنان لضحكته المكتومة وقال بعد ان تنهد بعمق " دعيني اذًا اخبرك من البداية. كنت انا وجين نعيش في كنائس يملكها قساوسة ورهبان منافقين ، لم اكن لأهتم لما يفعلونه لسكان القرية ولكن معاملتهم لنا لم تكن جيدةً ابدًا .."
" كل يوم كان مريعًا بالقدر الذي جعلني احاول قتل نفسي مرارًا .. كرهت كوني موجودًا في تلك البقعة "
شدت ميلا يدها على قوسها ، هي لم تكن تعلم أكانت حزينةً أم غاضبة ، أم حتى نادمة لانها فتحت هذه الصفحة من حياته ، إلا أن باين اكمل مقاطعًا أفكارها " كان الجميع يصدق أنني ممسوس من الشيطان ."
ابتسم بتكلف وكأنه تذكر شيئًا مفرحًا  "حاولت قتل ذلك الدجال ولذلك تم نقلنا إلى كنيسة أخرى اقل بؤسًا ، وعندما توالت السنوات حتى أصبحت في الثالثة عشر تم تبنينا من قِبل عائلة ثرية أدركت فيما بعد أننا بقعتان لتحسين صورتهم بعد أن تدمرت بسبب تورطهم في تجارة البشر .. لقد كنا احد اعمالهم الخيرية ."
امائت ميلا وامسكت يده بلطف ، لاحظها باين وابتسم بامتنان ..
" تعاملهم معنا كان مليئًا بالعطف ، عائلةٌ مملة وأيامها رتيبة ، اب وفتًا يدعى هانس وفتاة مقعدة تدعى بيل . كل شيء كان بخير حتى خرجت من غرفتي منتصف الليل للبحث عن شيءٍ ما "
تنهدت ميلا وكأنها أدركت تحول الأحداث " هذا ما يجعلنا في فوضى دائمًا .. الفضول "
" معاك حق ولكني لم أندم أبدًا على ذلك التلصص .. وجدت الرجل الذي دعوناه ابي لسنوات يجلس بجانب بيل وقد كانت تُلِح عليه للتخلص منا "
هسهست ميلا " لا أعجبُ انها مقعدة ! يالها من حقيرة "
" هو بالفعل قد رسم مخطط التخلص منا والذي سيُدِر عليه المال حين يبيعُنا "
قاطعهما صوت عربة قادمة ليُجهز باين سيفه على خصره ويقول " لا أريد إكمال القصة في سطح المنزل المكشوف اليوم فالجو مازال باردًا في الليل علينا احضار شيء يفي بالغرض "
امائت ميلا وقامت بتغطية وجهها بوشاحها القرمزي وتسديد قوسها تجاههم.
وصلت العربة للنقطة التي انتظرتها ميلا قامت بتضييق عينها في حين اغلقت الأخرى لتحصل على كامل تركيزها ، اطلقت سهمها مُصيبةً احد العجلات ببراعة .
" قطاع طرق ، أخرجوا من العربة حالًا "
صرخ باين وهو يقف أمام العربة مُشهرًا سيفه.
نزل من العربة سيدة نحيلة ومن خلفها شاب يقترب من طول باين يغطي رأسه ويمسك بطرف قميص السيدة .
تسمرت ميلا بصدمة حين رأت عمتها نوليا ، أنزلت قوسها ويديها ترتجف .
مالذي يخيفها ؟
هي لم تعد تلك الطفلة الباكية!
مازالت عمتها تملك نفس تعابير الوجه المتعالي رغم الخطوط التي تخللته في هذه السنوات ، ظهرها منتصب كما كانت في شبابها والامر سيان مع تقاسيم جسدها ، خيوط بيضاء في مقدمة فروة رأسها جعلت ميلا تحاول تذكر عمر عمتها بالفعل ، هل أصبحت في الستين ؟
تحدثت العمة نوليا بضجر " هذا هو المال !"
نظر باين تجاه كيس المال أمامه وأخذه بسعادة وقال " رغم أننا لا نسرق المال ولكننا لا نرفضه "
نظرت نوليا مباشرة إلى ميلا التي تتجنب النظر إليها " ياللبؤس! أهذا مايفترض ان تفعله شابة مثلك؟ "
مجددًا تقوم بالتعالي والتوبيخ رغم أنها لم تتعرف على ميلا بعد ، اجتاح الغضب ميلا وشعرت بالحرارة ترتفع في وجنتيها ، استمرت تحدق بعمتها التي بادلتها التحديق حتى أنزلت الأولى الوشاح عن وجهها ، ووجهت القوس الى وجه عمتها مباشرة.
توسعت عينا نوليا بالفعل وبدأت تعود للوراء بخطوات مترددة وتسحب الشاب خلفها وهي تشهق أنفاسها" إلهي المبارك ".
"أيها الشيطان !! كيف ماتزالين على قيد الحياة؟؟"
"حين تخبرينني عن سبب توجهك إلى ألمانيا؟"
انفعلت نوليا بغضب " ليس من شأنك !! أي كارثة حلّت ليحدث أكثر مما حدث؟ لا عجب اننا بدأنا بالانهيار لأنك ما زلتي تتنفسين !!"
" توقفي عن هذه الترهات !!"
كان صوت باين غاضبًا كفاية ليشهر سيفه على عنقها ، أردف ببطئ محذرًا " راقبي كلماتك تجاه سيدتي !"
لم تأبه العمة نوليا بالسيف أمامها وقهقهت بغرابة " شخصٌ وُلد في يوم لم تستطع فيه بريطانيا الكبرى رؤية الشمس ولا حتى القمر ليس سوى الشيطان الأكبر!!"
فتحت ميلا فمها لتسأل الكثير ولكن لم ترغب في نقاش يجرحها ويهينها امام باين.
" باين دعها ولنعد! "
قال باين محتجًا " ولكن ان ندعهما يرحلان..."
قاطعته ميلا بحدة " قلت كفى باين !! "
عقد باين حاجباه بغضب " بالطبع لن أستمع لطفلةٍ مثلك"
ثم وجّه كلامه إلى العمة نوليا متجاهلًا سيدته الغاضبة " تقدمي أمامي هناك مايجب ان نتحدث عنه انتي ومن معك "
قالت العمة نوليا بثبات " أنزِل سيفك أيها اللقيط عني "
تحدث الشاب للمرة الأولى وهو يضع يده على كتف عمته بصوتٍ خافت بالكاد سمعته ميلا  " هذا يكفي عمتي نوليا "
امسك الشاب بغطاء رأسه ويداه ترتجفان ، انزله وكشف عن نفسه ..
كان يملك ذات الأعين .. ذات الأنف .. وذات لون الشعر
تمتمت ميلا بلا وعي " مي.. ميشيل ؟"
وقعت عين ميشيل مباشرة في عيْنا ميلا ،  سقط القوس من يدها
متأكدةً من أن قلبها قد سقط معه. اختفت كل الأصوات من اذنيها وعلا صوت عقلها الذي كان يصرخ بجنون بخلاف جمودها ، تسارعت أنفاسها وتكسرت تلك التنهيدة التي اخرجتها بدون تصديق ..
كيف يكون هذا ميشيل ؟ من أين أتى؟
لم يكتفي عقلها بالصراخ فقد ارتسمت أمامها جنازته ، سقوطه في المنحدر ، بكاء ريتشارد وصراخه عليها ذلك اليوم  ، كل تلك الادلة كانت حقيقية وليست من نسج خيالها ، وكأن عقلها يبرهن انه مازال بخير.
قال باين الذي كان يركز نظره على ميشيل بدون ان يرمش او يبعد بؤبؤيْه عنه مخاطبًا ميلا " من هذا ؟ لم هو يشبهك إلى هذه الدرجة؟ "
نظفت العمة نوليا حنجرتها " إن.. إنه ميشيل " امائت وكأنها تؤكد لنفسها  " ميشيل تُرانسي ، الوريث الشرعي والحقيقي "
قاطعتها ميلا مباشرة محتجة " لقد مات ميشيل ذلك اليوم  "
" هو لم يمت يومها ولكنه ظل غائبًا عن الوعي لعامٍ كامل مع .. بركات الرب سمحت له بالعيش مجددًا وقد دفع ثمن ذلك "
تثاقلت انفاس ميلا حين أدركت المعنى الحقيقي وراء موافقة والدها على أن تكون ميشيل " هل .."
امائت العمة نوليا واردفت " ريتشارد آمن بنجاة ميشيل ولذلك كنتي بديلته كما تمنيتي ولم تكوني سيئة حقًا .. والان عاد الوريث الشرعي لهذه العائلة ولم تعد لكِ حاجة "
انهمرت دموعها بدون ان تشعر ولكنها مسحتها بقوة مباشرة وقامت بالتقاط قوسها وقالت بصرامة موجهةً كلامها إلى باين " لقد غيرت رأيي باين لنأخذهما "
ابتسم باين بانتصار وكأنه أدرك انها ستفعل ماقال من البداية ، وجّه سيفه إليهما وقال " كما قلت آنفًا تقدما أمامي "
" ميلاريا دعينا نتحدث ، انا سعيد انكِ على قيد الحياة واستطعت لقائك."
كان وقع صوت ميشيل هادئًا على اذنيها ، ذات النبرة التي تطمئنها وتجعلها تشعر بالأمان قبل أعوام مضت ، كل ذلك جعلها غاضبة.
نظرت إليه بلا تعابير وقالت ببطئ ووضوح "بالنسبة لي انت مازلت ميتًا أيها الملاك "
ثم حدقت بعمتها وقالت مهددة " أنتم لن تتخصلوا من الشيطان بسهولة "
...

تُرانسيّ.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن