أحيانا نقع فى واقع مرير ليس منه مخرجا بسبب تلك الكتلة اللينة و القابعة داخل جمجمتنا و التى تسم مخاً فبسببها يقتنع كل شخص منا أنه الذكى المنتظر أذكى شخصا بأمور الحياة وأنه مسيطر و متحكم بعجلة القيادة لحياته ......
و لكن عذرا فأنت واهى .... لأن عقلك العنيد هذا قد دفعك فى النهاية إلا منطقة لو كانوا أخبروك سابقا أنها هى ما ستؤل إليه حياتك لكنت ضحكت بملئ فمك ساخرا و متأكدا أن هذا لن يحدث .... و لكنه حدث بالفعل و أصبحت سجين .... أسير ...... يصرخ بداخلك ذلك الشخص الواهى و الذى سخر سابقا من أن تقع فى الفخ و يضرب باب زنزانته بكلتا يديه ربما يسمعه أحد و يحرره و يخرج للنور و للحياة .......
ولكن يبقى صراخه بداخله وتبقى ملامحه جامدة و هو يطالع الطيور كل يوم من شرفة غرفته يحسدها على حريتها و المحروم هو منها أسيرا لذلك اللعين المتحرك ....وصلت سيارتى رامى و حمزة أمام الوكالة ... ترجل سائق حمزة أولا و حمل كرسيه المتحرك و فتحه بجوار باب السيارة و إنحنى فلف حمزة ذراعه حول رقبته و إستند بذراعه الأخرى على مقعد السيارة و دفع جسده الذى إستقر كالعادة نصف ميتا على الكرسى .... إنحنى السائق مجددا و رفع قدميه واحدا تلو الأخرى ليستندا على حاملهما بالكرسى ....
تطلع إليه حمزة بإشفاق ... تريد أن تخرج منه كلمات الشكر له و لكن مساعدته تلك لا يشعر بها كما لا يشعر بنصف جسده السفلى ....
أشار رامى بيديه للسائق أن يكفى ما فعلته و أنا سأكمل ....و بالفعل إلتف و وقف خلفه و دفع كرسيه بحرص ... لم يرفع حمزة عينيه عن ساقيه متحاشى النظر لعيون المارة و هو لا يريد أن يرى عجزه بأعينهم أو نظرة شفقة أو ذلك السؤال البغيض " لماذا لم تستمع لأسرتك و بقيت على عنادك " .....
لم يعلمون أن ذلك الساخر بداخله يسأله نفس السؤال يوميا لو أنه إستمع فقط و ترك عقله على جانب و حكم قلبه قليلا لكان الآن فى مكان آخر .......
و كان سينعم بحياة زوجية مكتملة مع من كبلته بها و أخذت تسحبه ببطء ناحيتها حتى أصبح غارقا بها و بعشقها مستسلما لكل ما تقدمه له من إهتمام و رعاية و لمسات حارقة و أنفاس برائحة الورد و شعرات طالما رغب فى إفتراشها على وسادته و جسد يتمايل بنعومة مخفى وراء تلك العباءات الواسعة و الذى يجبرها على إرتدائها حتى لا تحترق عينيه برؤية حلاله محرما عليه ...
خرج حمزة من شروده على إهتزاز الكرسى نتيجة مروره على قطعة حديد صدأة ملقاه بإهمال على الأرض .. وبعد لحظات إبتسمت شفتيه و هو يطالع والده جالسا على مكتبه بترفع و إيباء و هيبة الرجل الأول لتلك الحارة الكبيرة ....
والذى إنتفض فور رؤيته له و إتسعت عينيه بفرحة و إستند بكلتا يديه على عكازه و وقف ببطء مصدوما يجبر عقله على تصديق ما يراه فالأسير بداخل القصر قد خرج للنور أخيرا .... لم يشعر بنفسه و هو يلتف حول مكتبه و يسير ناحيته بصمت موجع و إنحنى بعد أن أضحى قبالته و ضمه لصدره بقوة مخبرا عقله الغير مصدق أنه أمامه فعلا ......
خرج صوته متحشرجا و هو يقول بحنان أبوى :
_ وحشتنى يا حمزة يا إبنى ..... الوكالة نورت .
آآآآه .... كم يعشق تلك الرائحة الذكية و التى تشعره بالأمان و تعيده صغيرا كلما سرق من فارس أو رامى شيئا ركض لذلك الصدر الواسع مختبئا بداخله ....
تمسك حمزة بجلباب والده و أجابه بإبتسامة رائقة :
_ الوكالة كانت و هتفضل منورة بيك إنت يا حاج .
إبتعد صبرى عنه قليلا و إحتضن وجهه بين راحتيه و سأله بقلق :
_ أخبارك إيه يا إبنى إنت كويس .
أومأ برأسه و أجابه قائلا ليطمئنه :
_ أنا الحمد لله كويس .... أخبار صحتك إنت إيه يا راجل يا عجوز .
إبتسم صبرى بهدوء و سحب مقعدا و جلس أمامه وقد إختفى من صوته نبرة ذلك الأب الحنون و عاد لتلك النبرة الرخيمة و الثابته وقال بضيق رافعا حاجبه :
_ لولا إنك إبنى و أخاف من زن أمك .... كنت قطعتلك لسانك اللى قال عليا عجوز دلوقتى .
ضحك حمزة ضحكة عالية من قلبه مفلترة من أى حزن أو سخرية و قال بمداعبة :
_ خلاص يا سيد المعلمين آسف ... قولى بقا صحتك عاملة إيه ؟!
ربت على كفه و أجابه بجدية :
_ نحمده على كل حال ..... قولى إنت إيه الشُقة الغريبة دى .
جلس رامى بجواره و قال موضحا و هو يخفى تأثره بلقائهم :
_ أصل ميناس عند ستها فحمزة قال ييجى يطمن عليك و يقعد معانا فى الوكالة يغير جو شوية .
إبتسم صبرى بوجهه و قال له بسعادة :
_ منور الدنيا يا حبيبى ..... تشرب إيه ؟
أجابه و هو يمسح الوكالة بعينيه باحثا بتلهف حزين :
_ شكرا يا حاج ... هو ... هو العوو مش هنا و لا إيه ؟!
عاد صبرى بظهره مستندا على ظهر مقعده و قال و هو يزفر بوهن على قطيعتهما :
_ خلص شغله فى المستشفى و جاى فى الطريق .
إبتلع حمزة ريقه بصعوبة و شبك أنامله ببعضهما و قال بقلق :
_ ربنا يستر لما يشوفنى هيعمل إيه ... بقيت بخاف أشوفه .