حمل صبرى مهاب على ذراعه و إتجه ناحية إحدى الأرائك و أجلسه أمامه ... فإعتدل الصغير فى جلسته و عقد ساقيه و طالعه بإهتمام و شغف .... إبتسم صبرى على حالته و هو يذكره بفارس و هو صغير كلما قص له إحدى قصصه قبل النوم ....
إبتلع صبرى ريقه و قال بادئا سرده :
_ بص يا سيدى ... أبويا ورث القصر ده عن جدى و سكناه أنا و أبويا و أمى و عبد الله أخويا أبو رامى ... و بعد أمى ما ماتت أبويا إتجوز .... و إتجوز بنت فى سنى أنا و جدك عبد الله ... فإضطرينا نسيب القصر و جينا هنا فى البيت ده و سكنا لوحدنا .
لم يكن مهاب الوحيد الجالس يتابع قصته ... بل جلس فارس أيضا يستمع إليه بإنصات ... أردف صبرى قائلا بهدوء :
_ و أنا يا سيدى إتجوزت ستك زينب فى الشقة دى .... و جدك عبد الله إتجوز فى الشقة اللى فوق ... و خلاص إتعودنا على الحارة و على العيشة فيها .. و لما جه أبوك يتجوز أمك إتجوزها فى القصر و لما ماتت الله يرحمها رجع زى إحنا ما رجعنا .
فسأله مهاب بتلقائية :
_ و لما بابا يتجوز تانى هنروح نعيش فى القصر .
إتسعت عينى فارس بذهول من حديثه ... بينما أجابه صبرى و هو يحدج فارس بنظرات ذات مغزى :
_ و الله لما يقابل بنت الحلال اللى إستناها عمره كله إنها ترجع .... ساعتها هتروحوا تعيشوا فى القصر .
تعمق فارس بنظرته ناحية والده فى محاولة منه لفهم مقصده .. حتى أخرجه من تفكيره المتعمق صوت رامى قائلا و هو ينصرف :
_ سلامو عليكو يا جماعة .
و أغلق ورائه الباب ... إلتفت ناحية والده مجددا فوجده يداعب الصغير بحماس .... لم تغب كلمات والده عن عقله و هو يتسائل بفضول عن من تحدث والده و من هى تلك العائدة ....ترجلت غزل بصحبة ليال و ما أن خرجت حتى إنتبهت أن ليال مازالت واقفة مكانها فعادت إليها وسألتها بتعجب :
_ يالا نخرج يا بنتى ... إنتى مش قولتى إن رامى جه .
أومأت ليال برأسها و قالت بتلقائية :
_ مش هينفع أخرج غير لما رامى يدخل ياخدنى من هنا .
_ ليه بقى مش فاهمة .
طأطأت ليال رأسها وقالت بتوجس :
_ علشان ما ينفعش أخرج الشارع إلا معاه .
زمت غزل شفتيها و قالت بضيق رافعة عينيها للسماء :
_ ده إيه الجنان ده بس يا ربى ....... الصبر من عندك .
إبتسمت ليال عليها .... و وقفا فى إنتظار قدوم رامى حتى إنتبهت غزل لتغير ملامح ليال و كفها التى إرتفعت ولامست صدرها الذى نهج بصورة مرئية و أغمضت عيناها و قالت هامسة :
_ رامى جه .
عقدت غزل ذراعيها أمام صدرها و قالت بإستخفاف :
_ و سيادتك عرفتى منين إنه جه .
أجابتها بإقتضاب هائم :
_ بحس بيه .
و إتسعت إبتسامتها و هى تستمع لصوت خطواته الرزينة و عطره الذى سبقه حتى رأته أمامها .... بهيبته الآخذة و جماله الرجولى ... حاولت إيجاد ذرة من الأكسجين لتتنفس و لكنه سحبهم جميعهم بوجوده المهيب ....
تعلقت عيونهم فى عناق مخفى ظهر تأثيره على وجنتيها و التى صبغتا باللون الوردى ... خرج صوته الرجولى نافذا لقلبها و هو يقول بإبتسامة هادئة :
_ السلام عليكم .
ياااالله ... مجرد كلمتين و إبتسامة ... و حل الربيع فجأة و تفتحت الزهور و ملأ عطرها الأجواء و زقزقت العصافير بسعادة و إزدانت الأشجار بالثمار ..... و فجأة سقطت إحدى تلك الثمار على ذراعها التى وخزته غزل بالقوة لتعيدها لمدخل البناية القديم مجددا و هى تجيب رامى بعملية :
_ و عليكم السلام .
حتى وخزة غزل لم تستطع فك عيناهما عن بعضهما .... فتحركت قليلا و وقفت بينهما و وزعت أنظارها تارة على ليال الذائبة و تارة على رامى صاحب النظرات القوية الذى مد يده نحو ليال و قال بهدوء يحسد عليه فى تلك الأمواج العاتية من المشاعر المتدفقة من عيونهم :
_ أخبارك إيه يا عسلية .
مدت ليال يدها ناحية يده و صافحته قائلة بإبتسامة عذبة :
_ الحمد لله كويسة .
طالت نظراتهم و مصافحتهم ... فضربت غزل جبهتها بيدها و تنحنحت قائلة بإشمئزاز من ذلك العشق المنفر والزائد عن الحد :
_ إحم .... نحن هنا يا جماعة .
إنتبه إليها رامى أولا فقال وهو محرجا :
_ أأ .. حمد الله على السلامة يا آنسة غزل .
أجابته غزل بإبتسامة ودودة :
_ الله يسلمك يا رامى و ياريت تقولى غزل بلاش آنسة دى .
ضحك قليلا و هو يطالع جمالها الصارخ و هز رأسه بالإيجاب و قال :
_ تمام يا غزل .... يالا بينا .
و أشار لهما بذراعه كى يتقدموه فخرجوا سويا ... فتح رامى الباب لغزل أولا ... فإستقلت السيارة و قالت بتعجب من تصرفه المهذب :
_ Thanks .
ثم فتح الباب المجاور له لليال التى جلست بهدوء ... فإلتف حول السيارة و صعد مكانه خلف المقود و أدار السيارة و إنطلق ...
تطلع لغزل بمرآته الأمامية و سألها بإهتمام :
_ مصر عجبتك يا غزل .
أومأت غزل برأسها و قالت براحة :
_ مصر كانت و هتفضل أحلى بلد فى الدنيا .
فقال لها بتعجب و هو مازال يطالعها من مرآته :
_ يعنى لسه راجعة من أمريكا و بتقولى على مصر كده ده فى فوارق كبيرة بين البلدين .
إبتسمت بسخرية و طالعت الطريق بشرود و أجابته بضيق :
_ محدش هنا هيعرف قيمة مصر غير اللى إتغرب عمره زيى .
أومأ رامى برأسه و قال مؤكدا :
_ عندك حق فعلا .
لم يجفل عن نظرات القابعة بجواره تنحته داخل قلبها بنظراتها ... فسحب كفها دون أن يتطلع إليها و إحتضنه بين راحته و قاد السيارة بيد واحدة ......
زاد تورد وجنتيها حتى أنه تحول للون أحمر قانى .... إلتفت إليها و تعمقا فى نظراتهما مجددا فزفرت غزل بضيق من تلك الحالة المستفزة و التى ستجعلها تتقئ .....
خرجوا بالسيارة من الحارة للطريق الرئيسى فإلتف بها للطريق المقابل و إنحدر عن الطريق ليصبح فى مواجهة القصر ...
شعرت غزل بإنقباضة بقلبها و تسارع أنفاسها و هى تتطلع لتلك الأشجار المحيطة للطريق المؤدى للقصر فسألت رامى بتعجب قلق :
_ إنت رايح فين يا رامى .
أجابها بتلقائية بسيطة :
_ عند ميناس .. هى و حمزة ساكنين فى القصر ده ... و أنا و ليال لما هنتجوز هنسكن فيه إن شاء الله .
ترائت لها خيالات مزعجة و هى تطالع ذلك الممر الطويل حتى توقفت السيارة و ضغط رامى بوقها فإنفتحت البوابة الكبيرة و دلف بهما لداخل القصر ... تطلعت له غزل بإنبهار و صفرت قائلة بإندهاش :
_ wow ...... So beautifull .
فسألها رامى و هو يصف سيارته :
_ عجبك القصر ؟!
أجابته و هى مشدوهة من جماله و فخامته :
_ un believable .
ترجلوا من السيارة و غزل مازالت على حالتها من الإنبهار و هى تتأمل تلك التماثيل التى زينته من الخارج فقالت و كأنها مسحورة :
_ يجنن .... أموت و أعرف حكاية القصر ده إيه ؟!
أغلق رامى سيارته و تمسك بكف ليال و أجابها قائلا :
_ القصر ده كان بتاع باشا من البشوات صممهوله و نفذه مهندس فرنساوى .... و كانت المنطقة اللى حواليه دى كلها صحرا ... بس بعد ما إتبنى القصر هنا إتعمر المكان مع الوقت ... و الورثة بتوع الراجل ده عرضوه للبيع فاجدى إشتراه ... و عمى صبرى و أبويا و رثوه و بقا ليا أنا و ولاد عمى .
عدل من ياقته بغرور و أردف قائلا بمداعبب :
_ بس أنا ليا نصه لأنى وريث أبويا الوحيد ... يالا ندخل إتفضلوا .
صعدوا الدرجات الرخامية فقرع رامى الجرس .... ففتحت له نشوى التى قالت بإبتسامة مرحبة :
_ يا أهلا و سهلا .... إتفضلوا .
ولجوا للداخل و الذى لا يقل جمالا عن الخارج .... فإستقبلتهم ميناس بفرحة ... ركضت ليال ناحيتها و ضمتها إليها قائلة بشوق :
_ وحشتينى قوى يا مينو .... أخبارك إيه ؟!
تنهدت ميناس بإرتياح و قالت بهدوء :
_ كويسة يا عمرى و إنتى وحشتينى قوى .
إنتبهت ميناس لوقفة غزل و المتابعة للقائهم بضيق ... سائلة نفسها كيف لإنسان أن يحرم أختان من لقاء بعضهما دائما ... و الأسوء خنوع تلك الفتاتان لمصيرهما بإسم الحب .... الحب ... عن أى حب يتحدثون ... بُلهاء .....
إقتربت ميناس من غزل بإبتسامتها الملائكية و قالت لها مرحبة :
_ نورتى مصر يا غزل ... دى تيتة كانت بتحكيلنا عنك دايما .
تطلعت غزل لبرائتها و جمالها وبادلتها إبتسامتها و قالت بحب غمرها ناحية تلك الصغيرة و الرائعة الجمال :
_ مصر منورة بيكم ... ما كنتش أتخيل إنك جميلة كده .... فعلا زى الملايكة زى ما قالتلى ليال .
إحتضنتها ميناس و قبلتها قائلة بمرح تفتقده :
_ و لو أنا جميلة إنتى بقا إيه ...... إتفضلوا إقعدوا .
و إبتعدت عن غزل و أشارت لهم بيدها فجلسوا سويا بردهة القصر الواسعة .... تابعت ميناس حديثها و رحبت برامى قائلة :
_ أخبارك إيه يا رامى .
أجابها و هو شارد بحبيبته مستغلا كل ثانية لإشباع عينيه برؤيتها :
_ الحمد لله زى الفل و العسل .
أخفت ليال إبتسامتها بصعوبة ... بينما لفت إنتباههم جميعا إقتراب حمزة منهم و هو يحرك كرسيه ناحيتهم و على ثغره إبتسامة هادئة .... ضيقت غزل عينيه و هى تحدجه بتعجب من وسامته الشديدة بشعراته الطويلة و ملامح وجهه الحازمة و الجميلة ... هزت رأسها متفهمة سبب تضحية ميناس الكبيرة فهذا الوسيم يستحق .....
إقترب منهم أكثر و قال بنبرة عميقة تلائمه :
_ أهلا و سهلا نورتونا .
أجابه رامى مداعبا :
_ عامل إيه يا صاحبى .
تطلع نحوه و أجابه مازحا :
_ أنا كويس .... أنا سلامى لليال و غزل مش ليك مالحقتش توحشنى يعنى .
ضيق رامى عينيه و قال بحدة ساخرة :
_ أنا مش عايز أقولك كلام مقاسه و أشوطه فى وسط ناسه .
إرتسمت تعابير الدهشة و الغباء على ملامح الفتيات ... بينما لم تتغلب على فضولها و قالت :
_ إيه اللغة الجديدة دى ... هى الترجمة هتنزل إمتى .
ضحك الجميع فأجابها حمزة ساخرا :
_ معلش يا غزل أصل رامى بقا بيئة جدا .. الحارة كرفت عليه .
زم رامى شفتيه بحدة و قال متوعدا :
_ ماشى يا إبن القصور ... بس إنت تمامك قل عندى و إستحمل بقا .
أشاح حمزة بعينيه عنه و سأل غزل بود :
_ إنتى هتستقرى فى مصر يا غزل .
هزت رأسها بالإيجاب و قالت بإبتسامة هادئة :
_ أيوة إن شاء الله .
حرك حمزة رأسه قليلا و سأل ليال أيضا :
_ و أخبار ستى رأفة إيه يا ليال .
أجابته بإمتعاض و هى عابسة :
_ كويسة .
إنتبه رامى لنفورها من حمزة فإقترح قائلا بدهاء :
_ قوموا يا بنات إقعدوا مع بعض أكيد عندكم كلام كتير عاوزيين تقولوه لبعض .
وقفوا مرحبين بالفكرة .... فمالت ميناس ناحية حمزة و سألته برقة :
_ عاوز منى حاجة يا حمزة .
أجابها بسخط و هو عابس :
_ هعوز منك إيه يعنى .... إمشى يالا .
لم يدرك عواقب ما قاله و تلك الشرارات الفيروزية المشتعلة تكاد تحرقه حيا .... إقتربت منه غزل و قالت بحدة :
_ ما تكلمها كويس ..... مالك بتعاملها كده بقرف .
إتسعت العيون من حولهما بصدمة بينما هز حمزة رأسه مستفهما و قال بتعجب :
_ نعم !!
عقدت ذراعيها و قالت بقوة :
_ أظن سمعتنى كويس ... و لو عاملتها كده تانى هندمك مفهوم .
صك أسنانه بغضب فمن هى لتتجرأ و تناطحه فسألها ساخرا :
_ هتعملى إيه يعنى مش فاهم .
رفعت حاجبها بضيق و قالت محذرة :
_ بلاش تعرف دلوقتى هخليهالك مفاجأة .
ثم فكت ذراعيها و إقتربت منه و هى تحدجه بتحدى مشتعل :
_ إتقى ربنا فيها دى أمانة فى رقبتك .... و لا إنت مش قد الأمانة .
لم تمهله وقتا للرد و قالت بنبرة محتدة :
_ قدامى يا بنات .
أخفى رامى إبتسامته الشامتة حتى رآهم يدخلون غرفة ميناس و يغلقون ورائهم الباب فإنفجر ضاحكا ... و قال ساخرا :
_ و الله كنت ناويلك على نية سودا ... بس كفاية عليك اللى حصل ده .
طبق حمزة كفه بغضب حتى إنغرست أظافره به و قال بعصبية :
_ إيه البت دى هى فاكرة نفسها إيه .
جلس رامى بجواره و قال بتشفى فى حالته :
_ بصراحة يا زميلى تستاهل .... أفحمتك ..... حافظ بقا على الأمانة علشام ربنا يرضى عنك .
إبتسم حمزة بسخرية عن من يوصونه عن ملاكه البرئ .... لم يعلمون أنه يوصى نفسه كل يوم بها .... و لكن فكرة أنها ستتركه يوما وتلجأ لشخص مكتمل تمضى معه حياتها و يحظى بكل ذلك الجمال قلبا و جسدا تشتعل غيرته و ينقض عليها دون سبب ملموس .....