طوال طريقها الطويل ظلت تتابعه بشغف و فجأة إختفت تلك المبانى العالية و الفخمة و حلت مكانها مبانى صغيرة أو قديمة بعض الشئ و إختلف مظهر البشر من الثراء و الراحة للفقر و العناء ....
توقف سائق السيارة و أشار لها بيده قائلا :
_ شايفة الطريق ده يا آنسة ...... هتمشى فيه شوية هتبقى جوة الحارة .
عقدت حاجبيها و سألته بتعجب :
_ ممكن حضرتك تدخل بالعربية و توصلنى .
هز رأسه نافيا و قال بإعتذار :
_ آسف بس التاكسى مش بيدخل جوة الطرق المكسرة والضيقة دى .
أومأت برأسها و شكرته و أعطته مبلغا ماليا و ترجلت من السيارة .. فوقعت عيناها على قصر كبير فى الضفة الثانية من الطريق .. وقفت تتأمله و قد شعرت بإنقباض فى قلبها فور رؤيته و كأنها رأته من قبل .. تلاحمت صور مبهمة أمام عيناها لم تستطع تفسيرها و قد دب بداخلها رعبا إمتلكها .. رغم فخامة القصر و جماله لكن شعورها بالضيق جعلها تبتعد بعينيها عنه تطالع تلك المبانى القديمة و الطرق الجانبية الضيقة و كأن ذلك القصر قد هبط من السماء على هذه المنطقة الشعبية ....
أولته ظهرها و عبرت الطريق ... ولجت للطريق المؤدى للحارة بقلق و لكن شغفها غلبها و هى تتطلع حولها كسائح ..... عاد إليها القلق مع نظرات الجميع و التى تتبعها فى صمت ... تجاهلتهم و هى تحاول عصر عقلها لتتذكر أى شئ حتى رأت رجلا كبيرا يجلس أمام أحد المحلات فإقتربت منه و قالت بأدب :
_ السلام عليكم .
أجابها الرجل بإبتسامة هادئة :
_ و عليكم السلام .
إبتسمت غزل على إبتسامته و سألته بتوجس :
_ لو سمحت كنت عاوزة أسأل على بيت واحدة ست كبيرة ساكنة هنا و إسمها الحاجة رأفة .
أومأ الرجل برأسه مؤكدا و قال :
_ طبعا عارف الحاجة رأفة .. هخلى حد من الولاد يوصلك .
و صاح بأحد الأطفال و الذين كانوا يلعبون كرة القدم بجدية لا تتناسب مع أنهم يلعبونها بالطريق ...
أوقف الطفل الجميع بيديه و إقترب منهم مشدوها بجمال غزل .. فطلب منه الرجل آمرا :
_ وصل الآنسة دى لبيت الحاجة رأفة بسرعة .
تطلع إليها الطفل بإعجاب إرتسم على وجهه فى شكل إبتسامة بلهاء .. وقال بغمزة من عيناه :
_ إتفضلى معايا يا موزة .
رفعت غزل حاجبيها متعجبة من طريقته .. ثم حركت كتفيها بحيرة و سارت بجواره ... و بعد قليل رأت منزل جدتها من بعيد و التى تذكرته على الفور ... إبتسمت بشوق و هو يتضح أكثر كلما إقتربت منه ....
وقف الطفل أمامها و قال بمداعبة :
_ هستناكى هنا علشان لو حبيتى ترجعى من مكان ما جيتى يا قمر .
أجابته بشرود و هى هائمة بذلك المنزل القديم :
_ مافيش داعى .
_ لأ إزاى .. ده أنا موقف الماتش علشان عيونك الزرقا دى .
إبتسمت غزل و مالت عليه قائلة و هى تقرص و جنته :
_ شكرا يا عسل .
تنهد مطولا و قال بهيام :
_ و لما أنا عسل إنتى إيه ...... إنتى حلوة قوى .
زادت ضحكات غزل على كلماته و بعثرت شعراته بكفها و تركته و دلفت للبناية ... صعدت الدرج و دقات قلبها ترتفع كلما إرتفعت درجة حتى وقفت أمام باب الشقة .....
تنفست مطولا و زفرته مرة واحدة و طرقته .... بعد قليل أتاها صوت فتاة رقيق من خلفه قائلا :
_ مين ؟!
أجابتها غزل بقلق :
_ مش ده بيت الحاجة رأفة .
فتحت ليال الباب و تطلعت لهيئة غزل و سألتها بفضول :
_ أيوة هو البيت ... إنتى مين ؟!
إبتسمت غزل و هى تطالع تلك العيون العسلية و الصافية و التى لم تغيرها السنين سوى أنها زادتها جمالا و بهاءً .... فتنهدت براحة و قالت :
_ مش مصدقة إنى شوفتك تانى يا ليال .
قطبت ليال حاجبيها و قد زادت دهشتها و قلقها ... فسألتها بتوجس :
_ إنتى تعرفينى منين .... أنا أول مرة أشوفك .
أومأت غزل برأسها متفهمة و قالت و قد بهتت إبتسامتها :
_ فعلا ... بقالنا عشرين سنة ما شوفناش بعض ليكى حق ما تعرفنيش .
عشرين سنة .... قطبت ليال جبينها ثم إتسعت عيناها و إرتفع حاجبيها و رفعت كفها على فمها بصدمة و قد تجمعت بعض العبرات بعينيها و قالت بصوت متحشرج متعمقة فى بحر عينى غزل :
_ غزل !!!!
هزت غزل رأسها و قالت برقة :
_ وحشتينى جدا يا ليال .
إجتذبتها ليال لحضنها و ضمتها بقوة قائلة بدموعها :
_ إنتى اللى وحشتينى يا غزل ..... دى تيتة كانت هتتجنن عليكى .
ربما تعجبت فى البداية من مشاعر ليال القوية و لكن دفء ضمتها جعلها تشعر بإطمئنان غريب إفتقدته لسنوات طويلة ... ملست على ظهرها برقة و قالت :
_ خلاص يا بنتى بطلى تعيطى .
أجابتها ليال بصوت مكتوم من إثر ضمتها القوية :
_ إنتى وحشانى قوى .
هزت غزل رأسها بيأس و قالت :
_ و الله و إنتوا كمان و حشتونى .
إبتعدت ليال عنها قليلا و قالت و هى تكفف عبراتها :
_ إتفضلى إدخلى .. تعالى يا غزل .
أتاهم صوتا حنونا يسأل بتعجب :
_ مين اللى جه يا ليال ؟!
إلتفت غزل برأسها ناحية ذلك الصوت الدافئ متطلعة بغرفة جدتها و قد سرى بجسدها تيار بارد جعل قلبها يرتجف بشوق ... إبتسمت ليال و قالت بصوت عالى :
_ دى ضيفة يا تيتة و جاية تشوفك .
أجابتها رأفة بترحاب :
_ خليها تتفضل يا بنتى .
إقتربت ليال من غزل و قالت هامسة :
_ ما تقوليش إنتى مين و شوفيها هتعرفك و لا لأ .
أومأت غزل برأسها فجذبتها ليال من يدها و ولجت بها لغرفة رأفة ...... توقفت أنفاس غزل و هى تتطلع إليها تشبع عيناها برؤيتها .... لقد هرمت كثيرا و أصبحت جليسة الفراش و لكن كل ذلك لم يؤثر بجمالها و الحنان المطل من عينيها ....
إبتلعت ريقها بتوتر و هى تطالعها بقوة ... بينما إكتفت رأفة بالصمت سابحة بعينيها على تلك الملامح التى طالما ما رأتها بمرآتها قديما ... شبه غريب بينها فى شبابها و بين تلك الفتاة الواقفة أمامها و لتزداد دهشة ... نفس لون العينين النادر ....
إبتسمت ليال و هى تتابع حوارهم الصامت و قالت قاطعة لتلك الحالة و التى ربما تمتد لفترة أطول :
_ مش هتسلمى على الضيفة يا تيتة .
أشارت رأفة بيدها على الفراش بجوارها تربت عليه بكفها المجعد قائلة بصعوبة :
_ تعالى جنبى يا حبيبتى .
إقتربت غزل منها بخطوات خفيفة كأنها طائرة لا تلامس الأرضية بقدميها و جلست بجوارها مستنشقة تلك الرائحة العذبة لها .. فسألتها رأفة بتوتر :
_ إنتى مين ؟!!!
لم تستطع الرد و كأن شفتيها قد إلتصقتا و جف حلقها .... طالت بينهما النظرات فحركت رأفة مقلتيها بجوارها و حملت صورة لحفيدتها صاحبة العيون الفيروزية و حملتها .. لقد عادت صغيرتها و التى عمرها بتلك الصورة خمس سنوات فقط .... سقطت دموعها على الصورة و هى تقول بوهن :
_ ما فاتش يوم عليا نسيتك فيه يا غزل .... كنت بتخيلك دايما و برسملك صورة جوايا .... بس ما كنتش عارفة إنك هتبقى حلوة قوى كده .
مسحت غزل دمعة فرت من عينها و قالت :
_ و أنا كمان كنت بفكر فيكى دايما .
رفعت رأفة عيناها عن الصورة تطالع الأصل ... فأردفت غزل قائلة بقوة :
_ وحشتينى قوى .
مررت رأفة كفها المرتعش على وجه غزل و هى تتأملها بشوق .... فعقدت ليال ذراعيها و قالت بصوت مختنق :
_ هتخلونى أعيط ... إيه هو إنتوا مش هتحضنوا بعض .