نفث دخان سيجارته بقوة و كأنه ينفث معه نيران صدره المقتدة .. ها هى بجواره و يفصله عنها حائط واحد تكاد عيناه تخترقه للوصول إليها .. بينما هو واقف هنا راضخا لأوامر عقله الذى يحثه على التريث و معاقبتها على ما مر به من أيام إحترق بها شوقا عليها كتلك السيجارة القابعة بين أنامله ...
و شعوره المرضى بأنه سيخسرها مجددا يزداد و يزداد .. أغمض عينيه و سحب نفسا طويلا عله يهدأ تلك الحرب الضروس القابعة بداخله و تناقض رهيب يرهقه ..
قلبه يجذبه جذب للذهاب إليها و رؤيتها بل و مسامحتها أيضا .. و عقله البائس يمنعه من الرضوخ أمامها .. إستطاعت أن تبتعد عنه تلك الأشهر المنصرفة .. إذا فلتحتمل أياما أخرى هو من سيبعدها عنها ...
فكما كانت مشاعرها متجمدة و هى بعيدة عنه .. فلتذق جموده هو و لتحتمل و لو لها القدرة ..
إعتدل فى وقفته و سار حتى فراشه و ترك سيجارته و جلس عليه بوهن .. و ألم عاصف يضرب رأسه .. و شعور من الخزى يملأه .. كانت بين قوسين أو أدنى من التضحية بعمرها سابقا من أجله بينما هو يعاقبها الآن و هو المخطئ ...
وقف مسرعا و سار حتى باب غرفته و فتحه و هو يلهث فى سببل الوصول إليها ...
و لكن توقفت قبضته على مقبض باب البيت و هو يقف متصنما راضخا لأوامر عقله بالتريث .. ضاقت أنفاسه فترك المقبض و عاد لغرفته بنفس السرعة و هو يلهث مجددا ..
و أغلق الباب و وقف خلفه مستندا عليه مانعا أى رغبة بداخله للذهاب إليها حتى و لو ليراها فقط .. مرر أنامله بشعراته و هو يجذبهم بقوة متمنيا أن يجذب أحد أسلاك عقله ليتوقف عن التفكير و اللهفة لمن تركته و لم تبالى بما عاناه ببعدها ..
سابقا إبتعدت عنه رغما عنها و كانت صغيره .. و عاش بألمها سنوات و سنوات .. و بعدما عادت و أصبحت ملكه .. تركته بإرادتها .. تركته ينكوى بنيران البعد و الخوف ...
كيف يأمن لها .. ربما تنتظره أن يقترب منها و ستتركه مجددا .. فما يخشاه بهذه الحياة .. هو فقدها مجددا .. و العودة لعالمه البارد بدونها ...
تحمل كثيرا و تألم أكثر و لن يقاوم هذه المرة ضعفه .. سينتهى بعدها .. تأوه بداخله بقوة و هو يصارع قوة خارقة و وحش غاضب بداخله يمزق قلبه شريانا شريانا ...
خرج من حالته تلك على طرق بباب غرفته .. دلفت زينب للداخل و هى تطالعه بإشفاق على إحمرار عينيه و رائحة السجائر التى ملأت الغرفة و سألته ببساطة و هدوء :
- هاتيجى معانا تشوف مراتك .. الواد مهاب هيتجنن و يشوف غزل .
إبتلع ريقه بتوتر و هو يحتفظ بإسمها بداخل قلبه الممزق عله يداويه .. و خرج صوته أجشا خفيضا و هو يجيبها متصنعا الهدوء :
- لما أحب أروح هبقى أروح .
لوت زينب ثغرها بضيق و ضيقت ما بين حاجبيها و قالت بتنهيدة مثقلة :
- ليه يا إبنى .. مش دى اللى كنت هتموت عليها و قلبت الدنيا علشان تعرف طريقها .
إجابته كانت الصمت الموجع .. و كأنه يكبل لسانه بداخل فمه حتى لا يقول شيئا مما يصرخ به قلبه .. محاصرا إيه و هو يصك أسنانه بقوة .. إقتربت منه و طالعته مطولا بإشفاق و قالت بتعقل :
- يا إبنى الله يهديك قوم معايا .. صالحها و راضيها و رجعها بيتك .. عاوزة أطمن عليكم .. تعبتونى .
أشاح ببصره عنها و تحكم فى إنفعالاته و قال بخفوت مرهق :
- و حياة حبيبك النبى سبينى براحتى .
هزت رأسها بيأس و قالت بموافقة هادئة :
- براحتك .. بس و غلاوتك هتندم .. خليك ماشى ورا شيطان نفسك .
مرر كفه على وجهه بضيق .. بينما خرجت هى و هى تناجى ربها قائلة بنبرة مستائة :
- يا رب إهديهم لأن صحتى مش هتستحمل اللى بيعملوه فيا ده .
أغلقت عليه باب غرفته .. فركض مهاب ناحيتها و هو يحاول إغلاق سترته و قال بضيق و عبوس ألذ من ألذ شئ بالدنيا :
- يا تيتة .. مش عارف أقفل الجاكيت .. و يالا بقا بسرعة ماما وحشتنى .
إنحنت قليلا ناحيته و أغلقت له سحاب سترته و عدلت من هندامه و قبلت مقدمة رأسه و قالت بإبتسامة حنونة :
- ربنا يحفظك يا قلب تيتة زى القمر .
لف حول نفسه بسعادة و قال بضحكة مشرقة :
- مش مصدق إنى هشوفها .. أحلى حاجة إنها مش قالتلى إنها هترجع علشان تعملهالى مفاجأة .