الفصل الحادي والعشرون: أتذكرين لقاءنا الأول؟

5.5K 565 195
                                    


" أنتِ الشخص الوحيد الذي أستطيع التحدث معه عن ظل غيمةٍ، عن أغنية، فكرة..
عن الوقتِ الذي ذهبتُ فيه للعملِ، ونظرتُ إلى زهرة عباد شمسٍ، ونظرتْ إليَّ.
وابتسمت كل بذرةٍ فيها"

فلاديمير نابوكوف..

"بالعودة نحو ثلاث سنواتٍ للخلفِ، إلى أحد أيام خريفه الأول في هذه الكليةِ، طقسٌ يميل للبرودة.. سماءٌ ملبدةٌ بالغيومِ..

ما زال هناك الكثير حتى موعد المحاضرةِ.

تابع تجواله العشوائي بين رفوف المكتبةِ؛ ربما يحالفه الحظ ويجد ذاك الكتاب الذي أرهقه البحث عنه..
"المحاكمة" لفرانز كافكا..

الرف الأخير، ربما عليه أن يستسلم ويكفَ عن البحثِ.
مرَّر بصره سريعًا على الرفِ العلوي، غير ممكنٍ..
هذا هو، اتسعت ابتسامته قليلًا بينما تحرك مقتربًا من الرفِ، مد ذراعه يزيح الكتاب الآخر المجاور له.. كي يصل بسهولةٍ لمراده.

هنا، وفي تلك اللحظة يلامس أذنه صوتٌ أنثوي لطيفٌ، أحرف بسيطةٍ.. شكرًا.

كيف لم ينتبه لوجود صاحبته؟ خاصةً مع خصلات شعرها المموجةِ متوسطة الطول التي تلامس جسده.

أجاب ببساطةٍ وهو يتصفح كتابه، ودون حتى أن يكلف نفسه عناء النظر إليها: لم أكن أنوي المساعدة ولكن لا بأس.

من الواضح أن الفتاة كانت تحاول منذ مدة الوصول إلى الكتاب الآخر، والذي أبعده هو ليصل لغايته، مساعدًا بهذا إياها دون أن يتعمدَ..

-حسنًا هل سأكون مذنبةً لو طلبتُ منكَ أن تكمل مساعدتكَ غير المقصودة وتناولني الكتاب لأنني ما زلتُ لا أستطيع الوصول إليه؟

"لا يمكن أن يكون أيٌّ منا مذنبًا؛ لأننا بشر.."  همس بهذه الأحرف بينما ما زال يعبثُ بكتابه، تخرجه من شروده -مع ارتفاع نبرة صوتها قليلًا-: ماذا قلتَ؟

-لم أكن أكلمكِ، كنتُ أقرأ كتابي. قال هذا أيضًا دون أن ينظر إليها.. على كلٍ أنتِ ماذا كنتِ تريدين؟

-الكتاب الذي في الرفِ العلوي إذا سمحت..   الواضح في صوتها الآن أن صبرها قد نفذ، يا إلهي لقد أثار أعصاب الفتاةِ في دقيقتينِ فقط، يمكن إضافة إنجازه هذا لموسوعة الأرقام القياسية.

حرك يده ببطءٍ يلتقط الكتاب ثم قرَّبه منها.. -ما زال لا يحاول النظر إليها-
تسحب هي الكتاب من يده قائلةً: وماذا يجبُ أن أنتظر من شخصٍ يقرأ لكافكا؟ على كلٍ شكرًا، إلى اللقاء.

استدارت لتتحركَ نحو الخارجِ، هنا يقرر هو أن يرفع رأسه، ويوجه رماديتيه نحوها.. بما أنها قد استدارت راحلة فما عاد بإمكانه أن يرى قسمات وجهها.

فقط شعرها المموج الذي يتحركُ عشوائيًا حولها، ثم.. نبرةُ صوتها التي علقت في ذاكرته من يومها..
أجل! هو تعرف عليها من نبرةِ صوتها فيما بعد، حين كانت تجيب على أحد الأسئلة في محاضرةٍ تاليةٍ، وتأكد من هويتها مع وجود نفس الخصلات البنيةِ المموجة.

حياةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن