فإذا بها تطلق الكلام الذي كانت تكبته في صدرها منذ ساعات دفعة واحدة: "كيف تفكر في العودة للخطر يا وليد؟؟ نحن ما كدنا نصدق أننا نجونا... ما كدنا نطمئن على سلامة بعضنا البعض... أتريد أن تعرض نفسك للهلاك من جديد؟؟" ولم تعطني فرصة للإجابة بل قالت بصوت شديد الرجاء: "أرجوك وليد... لا تذهب... أرجوك" تأوهت وقلت: "لا بد لي من الذهاب يا رغد... لا بد" ورأيتها تعض على شفتها السفلى ثم تقول: "يمكنك إحضارها إلى هنا... ونستقر عن الخطر والحرب" تعني أروى... قلت: "صعب جدا... أروى لن يعجبها ذلك... ثم إن المنزل والمزرعة والمصنع... وكل شيء هناك..." فأومأت برأسها اعتراضا فأضفت: "إنهم لا يلاحقونني أنا... لا تخشي علي... صغيرتي" فانفجرت قائلة: "كيف لا أخشى عليك؟؟ لقد رأيت ما فعلوه بك بأم عينيّ... هل تريد أن تيتمني للمرة الثالثة بعد؟؟ أنت لا تعمل حسابا لي" وانصرفت مسرعة إلى غرفتها... انتظرت لحظة... في حيرة من أمري... ثم وقفت وقلت مخاطبا أخي: "سأتحدث معها" ولم يبد أخي أي ردة فعل... لحقتُ بالصغيرة وحصلت على إذنها بدخول الغرفة... وما إن دخلت حتى وقعت عيناي على مجموعة من اللوحات إلى جانب بعضها البعض... عند الجدار المقابل للباب... صورة لوالدي وأخرى لوالدتي رحمهما الله... وصورة لي أنا... وأنا رافعٌ يدي... موضوعة على عمود الرسم... لدى رؤية صورتي والديّ لم أتمالك نفسي... وسرتُ باتجاهها وحملقت فيهما وانتابني الأسى والمرارة... خاطبتهما سرا... ألا تخرجان من اللوحتين... وتريان ما نحن فيه... وتحلان مشكلتنا؟؟ أنا وشقيقي نحب فتاة واحدة تعني لكلينا كل شيء وعلى أحدنا أن يُميت قلبه ليُحيي الآخر... أنا يا أمي ويا أبي... أفضّل اللحاق بكما على أن يمس شقيقي أي أذى... سامحاني لأنني كنت أنانيا جدا... لم أتفهم مشاعره ولم أقدّرها... حسبت أن رغد شيء يخصني أنا وأنه هو من سرقها مني... والتفتُ نحو رغد والتي كانت مطأطئة بصرها بحزن نحو الأرض.. فخاطبتها في سري بلهفة... ألست شيئا يخصني أنا يا رغد؟؟ ألست فتاتي أنا؟؟ ألست لي؟؟ ألن تكوني لي؟؟ ألا يجب أن تكوني لي أنا؟؟ ربما أحست رغد بنظراتي المسلطة عليها أو استبطأت كلامي... أو حتى سمعت خطابي السري في نفسي... فإذا بها تلتفتُ إلي وترمقني بنظرة أرسلتني إلى عالم التيه والضياع... ثم إذا بتعبيرات الرجاء الشديد بل التوسل تزحف إلى قسمات وجهها الحزين وتخرج من لسانها بقول: "أرجوك وليد.. تخلّ عن الفكرة.. ودعنا نعيش هنا معا بسلام.. أنا تعبتُ من الحرب والتشرد واليتم والضياع والصراع.. ألا تفعل هذا من أجلي؟؟" تفطر قلبي لكلامها ونزف كثيرا... إنك تطلبين المستحيل يا رغد... اقتربت منها وقلت مغدقا عطفي وحناني ومتحججا بمسؤولياتي: "يا رغد... يا صغيرتي العزيزة... ومن يتولى الأمور هناك في الوطن؟؟ لديّ مسؤوليات جدية وكبيرة في انتظاري" فقالت: "وأنا؟ ألست جزءا جديا من مسؤوليتك أنت؟؟ كيف تتركني وحدي وتذهب عني؟؟" قلت: "كيف تقولين وحدك؟؟ أتركك مع دانة وسامر" فأجابت منفعلة: "لكنك أنت الوصي علي... المسؤول عني شرعيا... ويفترض أن تبقيني معك وتبقى معي... أليس كذلك؟ أليس هذا من واجبك؟" لم أجب مباشرة... ثم قلت: "بلى... و... كذلك... أنا المسؤول عن أروى... ومن واجبي العودة إليها" وكنت أتوقع أن يزعجها ذكر أروى... بل كنت أتعمد أن أذكرها حتى أستفيق أنا من حالة التيه في بحر رغد, وأعود إلى الواقع وأقطع الحبال المتشدقة بسفينة رغد... نعم كنت أتوقع أن تنزعج رغد من ذكر أروى -كعادتها- لكنني لم أتوقع أن تأتي ردة فعلها بهذا الشكل... صرخت منفعلة منفلتة: "إذن عُد إليها... هيا عُد... لا شك أنك متلهف لعينيها الزرقاوين وشعرها الحريري الأشقر... من يتنازل عن الحسناء الثرية؟؟ هنيئا لك بمن اخترت.. اذهب!" وأشاحت بوجهها عني... وعندما ناديتها هتفت زاجرة: "اذهب الآن" وما كان مني إلا أن غادرت الغرفة. عندما عدت إلى حيث كنا نتناول العشاء قبل قليل... لم أجد أخي هناك... بحثت عنه في غرفته وفي الجوار ولم أجده... ووجدت هاتفه موضوعا على سريره... سألت عنه دانة فأخبرتني أنها لم تره مذ كنا نتناول الكعك عصرا... قضيت الساعتين التاليتين واقفا على أطراف أعصابي المشدودة... حتى إذا ما ظهر أخيرا... قادما من الخارج... قدمتُ نحوه وبادرت بالسؤال: "إلى أين ذهبت؟؟" ظهر الانزعاج من السؤال على وجه أخي وقال: "عفوا؟؟" فتراجعت وقلت مخففا سؤالي: "أعني... في هذا الطقس البارد؟؟" فرد سامر: "تمشيت في الجوار..." وبعد برهة صامتة قلت وأنا أهم بالانصراف: "سأخلد للنوم" استوقفني سامر بسؤاله: "ماذا أحرزت مع رغد؟" فشددت على قبضتي... ثم قلت: "لا شيء..." وتابعت: "لا تقدر مسؤولياتي الأخرى... تتوقع مني أن... أتفرغ لرعايتها" رأيت ابتسامة شبه ساخرة على زاوية فمه اليمنى... ثم حل الجد مكانها وإذا بأخي يقول: "إنها... متعلقة بك" تدفقت الدماء إلى وجهي... ورأيت أخي ينظر إلى عينيّ ينتظر تعليقا... فأبعد نظري عنه, ثم قلت: "... أعرف..." فقال: "إذن..؟؟" فالتفت إليه وقرأت في عينيه جدية واهتماما بالغين... ولم أعرف بم أقابلهما... فقال أخي وقد اصطبغ صوته بالانزعاج: "لم لا ترد؟ لقد جئت بي من آخر العالم إلى هنا ووضعتها نصب عيني... أعدتني إلى ما كنت على وشك الخلاص منه... وها أنت تريد أن ترحل وتتركني في نفس الدوامة... فهلا حللت قضيتي مع رغد أولا؟؟" تضاعف ضخ الدماء الحارة إلى وجهي... واشتعلت النار التي لا تكاد تهدأ في معدتي... وبدأ العرق يتصبب مني رغم برودة الجو... قلت أخيرا: "صبرا يا سامر... أعطنا فترة نقاهة مما حصل مؤخرا... رويدك" ورأيت أخي يمد سبابته اليمنى نحو وجهي ويضيّق عينيه ويضغط على أسنانه وهو يقول مهددا: "لا تتلاعب بي يا وليد" فأفلتت أعصابي من سيطرتي وقلت حانقا: "وماذا تريد مني أن أفعل الآن؟؟ أرغم الفتاة على العودة إليك؟؟ أليس لديك اعتبارا لمشاعرها هي وإرادتها ورغبتها هي؟؟" فرد مباشرة: "أنا أكثر منك معرفة... بمشاعرها هي.. وإرادتها هي.. ورغبتها هي.. وأنت.. أنت.. يجب عليك أن تتدخل لوضع حد لهذا.. يجب أن تُفهمها ما لا تريد هي أن تفهمه.. يجب أن تجعلها تستيقظ من أحلامها المستحيلة التي لا تسبب لها إلا الأذى وتتوقف عن هدر مشاعرها على الشخص الخطأ" فوجئت بكلام أخي للحد الذي لزمني زمن طويل حتى أستفيق من طور المفاجأة... ولما استفقت, كان أخي قد انصرف... ذهبت إلى غرفتي... وجلست على سريري... واستخرجت قصاصات صورة رغد من محفظتي المخبأة تحت الوسادة... وجمعتها... ونظرت إلى وجه رغد... وتأوهت... هل آن الأوان... لأن ينتهي كل شيء يا رغد؟؟؟ هل يعقل... أنني سأضطر للتخلي عنك... بعد كل هذا؟؟ إنه يساومني على حياته يا رغد... هل سأضحي بك من أجله؟؟ هل سأفعل ذلك يا رغد؟؟ هل سأجرؤ؟؟ هل أنا أستطيع ذلك؟؟ وضممت الصورة إلى صدري وعصرتها بقبضتي وهتفت...:
"لا أستطيع... لا أستطيع..."