"جرس الباب يقرع"
قال: "أسمعه"
قلت: "من يكون؟؟ ولماذا يقرع بهذا الشكل؟؟"
فقال سامر:
"تجاهليه... إياك وأن تجيبيه" وزادت الجملة فزعي... فقلت: "من هذا؟؟ لا أشعر بالطمأنينة... أنا خائفة"
فقال: "اسمعي يا رغد... اتصلي بوليد وأخبريه عن هذا وقولي له أن يتوخى الحذر" فقلت وقلقي يتفاقم: "هل تعرف من يكون؟؟" فأجاب: "لا ولكن الحذر واجب" توقف القرع وأنا أتصل بوليد... أخبرته فحذرني من الإجابة على أي طارق وأمرني بأن أبقى ساكنة لحين عودته. سألني عن سامر فأخبرته بأنه يشعر بالعطش ويطلب الماء فنهاني عن تصديقه وأكد علي بألا أقترب من الباب نهائيا, وأخبرني بأنه سيعود بعد قليل... وهذا القليل استمر قرابة الساعة... ولم تكن كأي ساعة... جلست قرب عتبات متصلة بالممر المؤدي إلى غرفة المجلس... في منتصف المسافة ما بين باب المدخل الرئيسي للمنزل وباب المجلس... وألصقت أذنا على كلا البابين... الأذن اليمنى كانت تسمع سامر وهو يسأل بمرارة: "أين الماء يا رغد؟؟" والأذن اليسرى تترقب عودة وليد... وأخيرا التقطت هذه الأذن صوت باب المدخل يفتح... هببت واقفة ويممت أنظاري شطر المدخل... متلهفة لرؤية وليد يدخل... فيسكن قلبي... إن مجرد الإحساس بوجوده فيما حولي... يشعرني بالطمأنينة والأمان... "لم تقفين هنا؟؟" سألني بقلق وهو ربما يلحظ التعبيرات المتلهفة على وجهي, قلت: "تأخرت" فقال: "توخيت المزيد من الحذر..." فقلت بشيء من الاندفاع: "سامر عطشان... عجل إليه بالماء أرجوك" ورأيت عضلات فكه تنقبض ثم عقب: "لعن الله الظالمين" وسار مباشرة إلى المطبخ, وحمل قارورة ماء وكأسا فارغا واتجه بهما إلى غرفة المجلس... "سامر... جلبت لك الماء" قال وليد بعد أن طرق الباب واستخرج المفتاح من جيبه... ثم أضاف: "أرجوك... لنتصرف كراشدين" وبعد تردد قصير, فتح الباب ودخل...**********
رأيت شقيقي جالسا على أحد المقاعد... مبعثر الشعر والملابس, وعليه إمارات الإعياء... وتصبغ ألوان الطيف وجهه المجروح... اقتربت منه وأنا أحمل القارورة الماء وكأسا... ملأته بالماء ثم قربته إليه وقلت: "تفضل" رمقني أخي بنظرة حادة... وبدا كأنه متردد... ثم حرك يده باتجاه الكأس. تناول الكأس مني, وألقى علي نظرة, ثم... إذا به يسكب محتواه فجأة نحو وجهي... وقف بسرعة وألقى بالكأس وهرول نحو الباب. وضعت القارورة جانبا وركضت خلفه مسرعا وأمسكت به وجررته إلى الداخل, ثم دفعت به بقوة نحو المقعد وجريت نحو الباب وخرجت وأقفلته على الفور. سمعت صوت أخي يصرخ: "افتح يا وليد... أنا لست حيوانا لتحبسني هكذا" فرددت بانفعال: "ستبقى حبيسا هنا يا سامر إلى حين موعد السفر. لن أسمح لأي مخلوق بأن يصل إليك. أتسمعني؟؟ سأخرجك من البلد بعد الغد" فصرخ سامر: "ومن قال لك أنني أريد أن أخرج؟؟" فقلت بعصبية: "ستخرج يا سامر. ستفعل ما أطلبه منك حرفيا.. أفهمت؟؟ أنا دبرت كل شيء... لا فكرة لديك عما فعلته وما بذلته لأجل ترحيلك... مهما صرخت ومهما قاومت ومهما تعاركت.. ستفعل ما أريده أنا... شئت أم أبيت ستنفذ خطتي" هاج سامر من جديد, وأخذ يضرب الباب حتى خشيت أن ينجح في اقتلاعه... التفت إلى رغد فرأيتها تنظر إلي نظرات ذعر واتهام... لا أنقصك الآن يا رغد... أرجوك... ابتعدت عن الممر وقلبي يعتصر لحالة شقيقي... ذهبت إلى مكتبي لأخذ بعض الأشياء ثم صعدت إلى الطابق العلوي لأعد حقيبة سفري... كانت الأشياء مبعثرة في غرفة نومي... فقد قلبها أخي رأسا على عقب وهو يفتش عن السلاح... استخرجت حقيبة سفر صغيرة وبدأت أجمع فيها أهم الحاجيات... وفي ذات الوقت أحاول إعادة النظام إلى الغرفة ولو قليلا... فجأة... رأيت شيئا لم أكن أتمنى أن أراه آنذاك... شيئا أسطواني الشكل... مرميا مع مجموعة من الأشياء المبعثرة على الأرض... صندوق أماني رغد! وصدقوني... لم أنتبه ليدي وهي تضعه في الحقيبة خطأ... كنت شاردا... ولم أكتشف ذلك إلا لاحقا... بعد أن انتهيت من إعداد تلك الحقيبة, أقفلت باب غرفتي ثم ذهبت لتفقد غرفة سامر... وأخذت منها هاتفه وحقيبته اليدوية والتي كانت تحتوي وثائق مهمة, وأشياء أخرى... ثم أقفلتها وبقية الغرف, وحملت الحقيبتين إلى الطابق السفلي, ثم ذهبت إلى رغد واستلمت منها حقيبتها, ونقلت الحقائب الثلاث إلى السيارة المركونة في المرآب... عندما عدت للداخل وجدت رغد تقف في انتظاري, وطبعا ألف علامة استفهام تدور حولها... لكنها لم تسألني عن شيء... ربما من هول الموقف... ألقت علي نظرة... وعادت أدراجها إلى غرفتها. يدرك كلانا أن المأزق خطير وأنه ليس بالوقت المناسب للكلام... اقتربت من باب غرفة المجلس, تحسسته... وداهمني ألم فظيع في معدتي... فانسحبت إلى غرفة المعيشة وابتلعت قرصين من دوائي لم يأتيا بمفعول يذكر وبقيت أتلوى على المقعد لوقت طويل... الساعة الرابعة فجرا يرن منبه هاتفي المحمول, يوقظني لتأدية الصلاة... أنهيت صلاتي وتلاوتي لآيات الذكر الحكيم ودعائي للرب الرحيم... ثم ذهبت إلى المطبخ ولا شيء يشغل تفكيري غير أخي... وضعت بعض الطعام والماء على صينية, وتوجهت بها إلى غرفة المجلس... كان نائما بكل هدوء على الأرض, وقد توسد إحدى الوسائد التابعة للمقعد... وتلحف بأخرى... رق قلبي له... أردت أن أربت عليه بحنان... لكني ربت بقوة أشد قليلا لأوقظه للصلاة... استيقظ سامر وأخذ ينظر إلى ما حوله بهلع... يبدو أن تربيتي كان أقوى مما تصورت... قلت مطمئنا إياه: "بسم الله... لا تفزع... إنه وقت الصلاة" نظر إلي أخي ولم يكلمني... ثم نهض وجعل يمدد أطرافه بإعياء... وتوجه إلى دورة المياه التابعة للغرفة. أسرعت وجلبت سجادتي وفرشتها على الأرض... خرج أخي بعد قليل وقال: "أريد أن أستحم" ترددت قليلا... ثم خرجت وأقفلت الباب وعدت مجددا أحمل إليه ملابس نظيفة... وبقيت في الغرفة إلى أن أنهى حمامه وأدى صلاته... وعيني ترقبه من كل الزوايا... قلت: "تقبل الله" فأجاب دون أن ينظر إلي: "منا ومنكم" ثم رأيته يضطجع على المقعد... قلت: "جلبت لك بعض الطعام... أرجوك تناول شيئا" ولم يلتفت أخي إلي... قلت: "سننطلق قبل طلوع فجر الغد... أخبرني إن كنت تحتاج شيئا لنأخذه معنا" ولم يرد... اقتربت منه وتحدثت إليه بكل عطف... بقلب يحمل كل الحب والقلق... إذ قلت: "أخي... يا نور عيني... أنا لن أسألك لماذا فعلت هذا... ولا يهمني أن أعرف أي تفاصيل... إنني أريد فقط أن تنجو بحياتك وتبتعد عن الخطر بأسرع ما يمكن" وتابعت: "إنني عشت تجربة السجن... وقد كان معي في زنزانتي مجرمو سياسة وأمن بلد... ورأيت كيف عاملتهم السلطات وكيف عذبتهم أشد التعذيب وقتلتهم أمام ناظري" قال أخي أخيرا: "نحن لسنا مجرمين" تفحصت رده ثم قلت: "السلطات تعتبركم مجرمين. تصف كل من يعارضها علنا ويثير الشغب والفوضى بأي شكل من الأشكال تحت اسم مجرمي أمن" التفت إلي أخي وكأنه يبدي إلي شيئا من الاهتمام لكلامي أخيرا... فتابعت: "كانوا يعذبوننا أشد التعذيب... حتى أنا ورغم أنني لا أنتمي لتلك المجموعة, نلت نصيبي من الضرب المبرح المتوحش... لحبسي في الزنزانة الخطأ" وأضفت وأنا أكشف عن صدري وظهري: "انظر... كل هذا... وأكثر..." مشيرا إلى الندب التي خلفتها يد التعذيب على جسدي... ثم أشرت إلى أنفي وتابعت: "حتى أنفي كسروه كما ترى..." وتابعت: "وصديقي... والد أروى... عذبوه شر تعذيب حتى قضى نحبه وهو على ذراعي..." وتخيلت صورة نديم... في آخر لقطة له قبل أن يسلم الروح... وانتفض جسدي وامتقع وجهي وعصرت عيني لأمحو الصورة الفظيعة... قلت: "بعد كل هذا... كيف تظن بأنني سأسمح لهم بأن يقبضوا عليك؟؟ أبدا... أبدا" هنا جلس أخي ورد منفعلا: "أنا لا يهمني الموت ولا التعذيب..." ارتعدت من رده... وسألت: "ما الذي يهمك إذن؟؟" فقال: "لا شيء... لاشيء يهمني في هذه الدنيا التعيسة... لا شيء" وصمت قليلا ثم أضاف: "لا شيء... بعد كل من فقدت... انتهى كل معنى للحياة في نظري... فأهلا بالموت..." وجذب نفسا ثم تابع: "لكنني لن أموت قبل أن أنتقم منهم" تضاعف هلعي وسألت: "ممن؟؟"