اقتربت منها أكثر وسألت:
"ألا تصدقينني يا رغد؟؟" وأيضا لم تتجاوب... شعرت بالألم الشديد لتجاهلها لي.. في آخر اللحظات التي تجمعنا.. على الإطلاق.. انصهر صوتي وأنا أقول بخيبة شديدة: "ألن تودعيني يا رغد؟؟.. سأذهب الآن... وقد... لا نلتقي ثانية..." عندئذ... سمعت آهة تصدر من حنجرتها بمرارة... تلاها سعال مكبوت... ثم شهقات وزفرات شجية... كانت صغيرتي تبكي... وتخفي عني وجهها ودموعها... وكأنها لا تعلم بأنني أحس بها تقطر من قلبي قبل أن تسيل على خديها... قلت متألما...: "رغد... صغيرتي... يتمنى المرء منا أشياء كثيرة ولكن... ظروف الحياة لا تسمح بتحقيق كل أمانينا..." وراقبتها فلم أر منها أي تفاعل... واصلت: "أنا... حاولت بكل جهودي... أن أوفر لك أفضل حياة.. أردت أن.. تكوني سعيدة ومرتاحة.. ومطمئنة إلى حاضرك ومستقبلك.. حاولت أن أكون.. وصيا وأبا جيدا.. لم أبخل عليك بشيء وإن كنت قد فعلت.. فأرجوك أن تسامحيني.." فأطلقت رغد آهة بكاء قوية تذوب لها الحجارة... كيف لي أن أتحمل..؟؟ كانت لا تزال موشحة بوجهها عني.. مصرة على حرماني من النظرة الأخيرة.. توسلت إليها: "رغد... انظري إلي" لكنها لم تفعل... "انظري إلي أرجوك" لم تستجب, بل على العكس... رفعت كفيها وأخفت وجهها خلفهما.. لم يعد لدي أمل في أن أراها... تنهدت ورجعت خطوة للوراء... وتأملتها برهة... ثم قلت: "سامر و دانة سيواصلان رعايتك.. وربما أفضل مني.. وأفضل من خالتك أو أي شخص كنت تتمنين أن.. يهتم بك" هنا نطقت رغد فجأة قائلة: "أنا لا أريد لأحد أن يهتم بي.. أنا لست طفلة كما تظنون.. ومن الآن فصاعدا سأتولى أنا الاهتمام بنفسي.. واتخاذ قراراتي.. وإذا حاول أحد التدخل بشؤوني.. أو فرض نفسه عليّ.. فسوف أوقفه عند حده" وكان صوتها متألما.. وكلامها مهددا... قلت: "لا أحد يفرض نفسه عليك يا رغد... لا أحد يجبرك على شيء..." وأضفت: "لكن... أحيانا... نجد أنفسنا نقدم التضحيات طوعا من أجل الأشخاص الذين نعزهم كثيرا... والذين يستحقون التضحية... وكم كنا لنشعر بأشد الندم... لو بخلنا عليهم..." ولم تعلق... فقلت: "أتفهمينني يا رغد؟؟" انتظرت منها أن ترد علي... أن تلتفت لي... لكنها كانت أقسى من أن تمنحني الفرصة الأخيرة... تراجعت إلى الوراء... خطوة تلو خطوة... وقفت عند الباب... وعيناي متشبثتان بها.. تكادان تقتلعان من مكانيهما.. وتبقيان هناك.. "وداعا... صغيرتي" أخيرا نطقت... وأغلقت فمي... وأغمضت عينيّ... أبتلع المرارة الشديدة التي خلفتها الجملة الأخيرة.. وأمتص الدموع الحارقة التي كانت تغلي تحت جفوني... فتحت عينيّ... ونظرت إلى صندوق الأماني الذي كان في يدي... وانعصر قلبي ألما... وداعا أيها الصندوق... كنت لي رفيقا شديد الغموض والكتمان... طوال السنين... لقد حافظت على أسرارك منذ صنعتك بيدي... فهل ستكتم أمانيّ وأحلامي... وحبيبتي.. في جوفك... إلى الأبد؟؟ وضعت الصندوق بهدوء على المنضدة المجاورة للباب. وأخيرا... أغلقت الباب... ببطء... ببطء شديد... إلى أن اختفت الفتحة... وانقطع حبل الرؤية الممتد من عيني... إلى رغد... وفيما نحن نهبط السلالم أنا وسامر و دانة... خارجين من هذا الجناح في طريقنا إلى البوابة... وأنا مستمر في ترديد وتأكيد وصاياي لأخي... ولأختي... إذا بصوت ينادي بانفعال فيوقفنا: "وليد" التفتنا إلى الوراء... إلى الأعلى... إلى حيث كانت رغد تقف... وتنظر إلي... لم تصدق عيناي أنهما تريانها... ما أسرع ما حلقتا إليها والتصقتا بعينيها... أهذه أنت رغد... أجئت لوداعي؟؟ هل رأفت بحالي أخيرا؟؟... "خذ" هتفت رغد... وهي ترمي باتجاهي بشيء ما... يرتطم بصدري... ثم يقع أمام رجليّ... أردت أن أنظر إلى ذلك الشيء... لكن عيناي رفضتا الانفكاك عن رغد... وإذا بها تهتف: "احتفظ به أنت... فأنا لم أعد طفلة لأحتفظ بشيء تافه وغبي كهذا" وبسرعة البرق اختفت رغد... لكن عينيّ ظلتا تحملقان في المكان الذي كانت تقف فيه... تفتشان عنها... أين اختفت فجأة؟؟ أين ذهبت؟؟ انتبهت من ذهولي وحملقتي على صوت دانة تقول: "ما هذا؟" التفت إليها فإذا بها تنظر باتجاه قدمي... طأطأت رأسي ونظرت... فهل تعلمون ماذا رأيت؟؟ نعم... لقد حزرتم... صندوق الأماني!!
"وليد!!" اندهشت كثيرا عندما رأيته يقف أمامي... وبعد كل تلك المدة الطويلة التي غابها عني... عجبا! ألا يزال يذكرني؟؟ مد يده ليصافحني... فلم أمد يدي إليه... تصافحني يا وليد؟؟ بعد كل هذا الغياب... هذا التجاهل والهروب مني... تعود وتصافحني؟؟ "أروى!... ألن تسلمي عليّ؟؟" سألني ويده لا تزال معلقة تنتظر مصافحتي... وخالي يقف جوارنا وعلى وجهه التوسل... لكنني لم أقبل... أشحت بوجهي عنه وقلت: "ما الذي أعادك؟؟" سمعت خالي يهتف رادعا: "أروى!" فالتفت إليه وإلى وليد وقلت: "وصلت متأخرا جدا..." وليد طأطأ برأسه ليرني اعتذاره ومدى ندمه... وتكلم قائلا: "مررت بأزمة حرجة جدا يا أروى... سأشرح لك" فقلت: "لست مضطرا..." فعاد خالي يردعني... فقلت وقد أفلتت أعصابي: "كل هذه المدة يا خالي وهو غير موجود... يسافر ويرحل... ويغيب كل هذا الزمن... دون خبر... دون كلمة.. متجاهلا لي.. متناسيا وجود زوجة في حياته... وتريد مني أن أستقبله بترحيب؟؟" قال خالي: "يهديك الله يا ابنتي نسمع منه ما حصل أولا" فما كان مني إلا أن انسحبت من المكان وخرجت إلى قلب المزرعة. بعد مرور فترة... جاء خالي إلي وطلب مني الذهاب معه للتحدث مع وليد فأبيت. أخبرني بأن وليد شرح له الظروف الحرجة التي مر بها وأنها كانت بالفعل خطيرة, ورجاني أن أصغي إلى وليد وأسمع منه مبرراته. وافقت من أجل خالي الذي كان قلقا بشأن علاقتي مع وليد... والتي أعتبرها أنا... انتهت منذ زمن... في المنزل... تركنا خالي بمفردنا وذهب ليصنع القهوة... وليد بدأ الحديث بالسؤال: "كيف أنت يا أروى" وحقيقة استفزني ذلك السؤال كثيرا... كيف تتوقع أن أكون وزوجي قد هجرني منذ فترة طويلة وأنا في أوج حزني على أمي الراحلة؟؟ لذا قلت بجفاء: "أرجوك وليد... لا داعي لأي كلام جانبي... أخبرني فقط بما أخبرت به خالي واختصر ما أمكن" نظر إلى وليد نظرة حزينة جدا تفطر القلب... انتبهت الآن فقط... إلى أن شكله قد تغير... كأنه كبر عشرين عاما... كان شاحبا ذابلا منحني القامة... يبدو مريضا ومرهقا جدا... وكان شعر رأسه وذقنه طويل وغير مرتب.. عيناه كانتا غائرتين وجفونه مسودّة... شكله كان مقلقا.. قال: "حسنا يا أروى... أنا لن أضغط عليك في شيء. لقد أخذتِ كفايتك من الوقت للنظر وإعادة النظر والتفكير والتقرير... سأكون تحت أمرك فيما ستقررين مهما كان... فقط اسمعي مني مبرراتي... وموقفي..." قلت والاهتمام يغزوني: "تفضل" وبدأ وليد يقص علي ما حصل مع شقيقه ومعه.. ما اضطر لفعله وكيف تصرف وإلى من لجأ وكيف سارت الأمور معه منذ اللحظة التي فارقني بها تلك الليلة, ليلة أن حضّرت له عشاء مصالحة فتركني وذهب إلى أخيه... وإلى أن عاد إلي هذه اللحظة... أحداث بدت أقرب إلى الأفلام منها إلى الواقع... عنف.. ذعر.. شرطة.. مطاردة.. هروب.. مرض.. مستشفى.. أحداث رهيبة اقشعر لها بدني.. وذاب لها قلبي وانصهرت مشاعري.. أمور فاقت أبعد توقعاتي واستصعب عقلي استيعابها دفعة واحدة... كان وليد يتوقف من حين لآخر.. يلتقط أنفاسه.. ويشرب جرعة من كأس الماء البارد الذي طلبه من خالي.. ورغم أنني طلبت من الاختصار منذ البداية, إلا أنه ذكر الكثير من التفاصيل بل وحتى بعض الأيام والتواريخ والساعات.. وتفاصيل المبالغ المالية التي سحبها من المصرف وكيف وأين صرفها.. وأسماء بعض الأطباء الذين أشرفوا على علاجه وأسماء بعض الأدوية. كنت أصغي إلى كل ذلك دون أن أقاطعه.. كنت أتجاوب معه عبر الانفعالات التي تطرأ على وجهي كلما ذكر شيئا مثيرا.. وحقيقة كان كل ما ذكره مثيرا ومربكا.. "ثم ماذا؟" سألته بتشوق عندما رأيته يتوقف عن الكلام أخيرا وقد انتهى من سرد كل الأحداث... فأجاب: "ثم استغليت سيارة أجرة وجئت مباشرة من المطار إلى هنا.." سألت راغبة في المزيد من التأكد.. فقد يكون قد أغفل عن ذكر شيء هو لدي أهم من التفاصيل التي ذكرها: "جئت بمفردك؟" فأشار من حولي وقال: "كما ترين.." فصمت برهة أفكر وأتأمل.. ثم سألت: "ثم ماذا؟؟" فنظر إلي وقال: "يعتمد عليك" أتصدقون هذا؟؟ وليد الآن معي... بمفرده.. ترك محبوبته المدللة في آخر العالم وعاد إلي..! هل هذا صحيح؟؟ هل تخلى عنها من أجلي؟؟ هل تركها هناك.. وعاد ليبقى معي أنا؟؟