في طريق عودتنا من مكتب الشؤون المدنية القابع في المدينة الصناعية حيث استخرجنا بعض الوثائق اللازمة للعمل, مررنا على منزل خالة رغد وقال وليد إنه سيوصل إليها بعض الحاجيات. وبعدما إلى المزرعة لاحظت شرود وانشغال باله. ولكي أكون دقيقة أكثر أقول إنني لاحظت ذلك منذ أن غلدر وليد منزل خالة رغد. كان وليد قد عاد قبل يومين من المدينة الساحلة جالبا معه حقيبة عمله من الأوراق والوثائق المهمة التي يريد مني الاطلاع عليها وقبولها ورفضها. حسابات... عقود... فواتير... مشاريع... وأشياء مزعجة اعتاد وليد على أن يقحمني فيها حينما كنا في المدينة الساحلية. شؤون العمل هي كل ما دار نقاشنا حوله خلال الأيام القليلة التي قضاها هنا... ولم نتحدث عن أي شيء آخر... وكأننا لسنا خطيبين... فرقت بينهما عدة أسابيع والتقيا أخيرا... وها هو الآن يستعد للمغادرة ويأخذ حقيبته من فوق المكتب ويخطو وسط الغرفة... باتجاه الباب. كان يريد الذهاب إلى أخيه ليقضي الليلة معه وليصطحبه إلى المطار غدا. كنت أراقبه بصمت وتأمل... ولاحظ هو تحديقي به فتوقف وسأل: "أهناك شيء؟" هناك أشياء كثيرة ولكن لا مجال لطرحها الآن. أجبته بعد تردد: "لا...لاشيء... فقط... لم لا تقضي الليلة هنا؟؟" فنظر إلي نظرة ذات مغزى... فقلت: "سأعد لك عشاء معتبرا...لا يبدو أنك تأكل شيئا منذ أسابيع". وخشيت أن يستسخف الفكرة لكنه لم يشأ إحراجي فقال: "لا بأس... لكن يجب أن يكون عشاء مبكرا... إذ سيتعين علي الخروج باكرا صباحا". فابتسمت بسرور وانصرفت من فوري إلى المطبخ وعملت بنشاط... وفيما أنا منشغلة مع طهوي أقبل خالي إلى المطبخ.. "هل تكلمتما؟" مشيرا إلى موضوع زواجنا المعلق. فمنذ يوم طلبت منه أن ننفصل وحتى يومنا هذا وليد لم يفتح الموضوع ولم يخبرني عن قراراته ولا ما يجول بخاطره... ولم يجمع بيننا لقاء خاص أو حوار خاص... أو حتى سفرة طعام... وفاة والدتي رحمها الله شغلتنا عن التفكير بأنفسنا. علاقتنا باردة كالثلج.. وهو وجد في العنل مهربا من التصادم معي... ولكن إلى متى؟؟ أجبت أخيرا على سؤال خالي: "ليس بعد". فحزن ونهد. كان قلقا علي. قلت له: "إنه لم يقم هنا غير ثلاثة أيام... كان مشغولا مع الوثائق والأوراق... لم تسنح الفرصة". فقال خالي: "الشاب ينتظر منك أنت فتح الموضوع يا بنيتي فهو لن يجرؤ على هذا في ظل ظروفنا الحالية". قلت بصراحة: "لا أعرف من أين أبدأ ولا كيف... أنا مشوشة جدا يا خالي وفقد والدتي أربك حياتي". وسكت برهة ثم واصلت: "استطعت دعوته للبقاء هنا الليلة... وتناول العشاء معي... سأحاول أن ألمح للموضوع أثناء ذلك... وأرى إن... كان على استعداد للتطرق إليه الآن..." شد خالي على يدي وقال: "أصلح الله أمركما وبارك فيكما... تشجعي بنيتي..." ثم غادر... تركت الطعام ينضج على النار... وذهبت إلى حيث وليد... كان جالسا في غرفة المعيشة يطالع الصحيفة باهتمام... وقد ترك حقيبة سفره على المقعد بجانبه.. هممت بأن أقترب منه وأبعد الحقيبة وأجلس بجواره... ولكن خانتني شجاعتي... لما انتبه وليد لحضوري قال معلقا على خبر قرأ في الصحيفة: "سيحظرون الرحلات الجوية من جديد... لا نعلم لكم من الزمن... سيزداد الأمر سوءا ومشقة". وقطب حاجبيه استياء... وتابع القراءة... أردت التفوه بأي تعليق غير أن هاتفه سبقني بالرنين فأجابه وليد, وسمعته يتحدث باهتمام إلى الطرف الآخر والذي أدركت من مضمون الكلام أنه شقيقه يسأله عن موعد حضوره ثم يطلب منه أمرا ملحا... هتف وليد وهو يقف ملحا: "رغد؟؟" فأصغيت لحديثه باهتمام... وكانت آخر جملة قالها: "حسنا أنا قادم". وأنهى المكالمة. سألته بفضول: "خيرا؟؟" فنظر إلي نظرة سريعة ثم قال: "يجب أن أغادر الآن... أنا أسف". أصبت بخيبة كبيرة... وقلت معترضة: "والعشاء؟؟" فقال معتذرا: "تناولاه بالصحة والعافية... لن أستطيع مشاركتكما". غضبت وقلت: "لقد أعددته من أجلك أنت يا وليد... ألا تقدر هذا؟؟" أطرق وليد برأسه ثم قال نعتذرا: "بلى يا أروى طبعا أقدر... لكن..." فقاطعته منفعلة: "لكن حبيبة القلب أولى بكل التقدير". نظر إلي وليد والدماء أخذة في الصعود إلى وجنتيه. ولم يجرؤ على التفوه بكلمة. أما أنا فقد اختل ميزاني لحظتها وأطلقت لساني قائلة: "لم سكت؟ قل شيئا... ألست ذاهبا إليها؟" زفر وليد زفرة ضيق من صدره ثم قال: "سأذهب إلى شقيقي... يطلب حضور حلا والأمر مقلق". فقلت: "لكنه أمر متعلق برغد... أليس كذلك؟؟" ولم يجب فقلت: "لن يمكنك الإنكار". هنا قال: "لا أعرف ماذا هناك يا أروى... سامر لم يوضح لكنه أقلقني... ربما حدث شيء لا قدر الله". فقلت: "أو ربما الصغيرة الغالية تتدلل على وصيها الحنون النبيل!" نظر وليد إلي بانزعاج فقلت: "إنها بالمرصاد لأي شيء يسعدني... ألا تلاحظ هذا؟؟" زفر وليد الكلمات بضيق: "هذا ليس وقته... أرجوك..." وأولاني ظهره وتناول حقيبته هاما بالمغادرة... لم أتمالك نفسي حينها وشعرت بالإهانة والخذلان والغيظ, فهتفت مجنونة: "وليد... إذا خرجت الآن فلا تعد إلى هنا ثانية". توقف وليد واستدار إلي... ورأيت في عينه دهشة ثم مرارة كبيرة... لكنني لم أستطع السيطرة على شعوري... في أحوج الأوقات إليه تركني وسافر... والآن مع أول خطوة للتصالح بيننا وفيما أنا أشغل تفكيري وجهدي فيه ولأجله... يتركني وينصرف إليها... أشاح وليد وجهه دون تعليق وسار نحو الباب. فهتفت مجددا: "قلت... إذا خرجت فلا تعد ثانية... أبدا... هل سمعت؟" ولم يكترث بكلامي, فصرخت في غيظ: "هل سمعتني يا وليد؟؟" استدار آنذاك بعصبية ونظر إلي وهتف بغضب: "نعم سمعت". ثم أضاف: "كم يؤسفني هذا منك... أولا أنا قلت سأذهب إلى شقيقي... يعني إلى المدينة التجارية وليست الصناعية والطريقان مختلفان ومتباعدان... وثانيا ليس بالوقت المناسب لتقليب المواجع... دعينا نفترق بسلام الآن". كنت أشعر بأن جزءا من قلبي قد نزع بعنف قلت منهارة: "لن يكون هناك مرة قادمة... إذا خرجت الآن فلا تعد... أنا لم أعد أحتمل... هذا كثير... أي نوع من الأزواج أنت؟؟" وهرولت منصرفة عن غرفة المعيشة وعائدة إلى المطبخ وأسندت جبيني إلى الثلاجة وأخذت أبكي... بعد قليل سمعت صوت وليد يناديني ولم أجبه... أحسست به يقف عند الباب ثم يقترب مني... ثم سمعته يقول لي: "أروى.. أرجوك... لاتزيديني هما على هم". واستمررت في ذرف عبرات الخذلان والأسف... إن الهم الأكبر هو هم امرأة تحب زوجها وتعرف أن قلبه مشغول بحب امرأة غيرها... هذا هو الهم الأدهى والأمر... قلت: "إذا كنت متعلقا بها لهذا الحد ولا تستطيع الاستغناء عنها فاذهب إليها... أنا لن أجبرك على البقاء معي ولا على حبي... ما حاجتي إلى رجل مشغول القلب بغيري...؟؟... اذهب... ولا تعد إلي ثانية".