« لم أكن كما أنا الآن منذ سنواتٍ يا عُميْري، كنتُ شابًّا طائشُا وجاهلًا لا يفقه شيئًا، وللأسف... لم أُدرك ذلك إلّا بعدما كان أوانُ الإدراك قد فات، وعلى ما يبدو أنّ أوان الإفصاح قد آن يا عُميْر، كانت لديّ أسرةٌ مُحبّة وجميلة تُمدّني بالدفئ والسعادة والأمان، والدي ووالدتي كانا وحيدين؛ لم يكن لديّ أخوالٌ أو أعمام، وأخي الأكبر كان يكبرني بخمسة عشر سنة، كان دائمًا ما يهتمُّ بي ويرعاني ويحاول إسعادي وإبهاجي دائمًا، كنتُ حينها أحبّ الرسم كثيرًا، كنتُ أرسم مع أخي دائمًا، كنّا نقضي غالب أوقاتنا نلهو معًا ونلعب ثم نعود للمنزل ليستقبلَنا حضنان دافئان لوالدين مُحبّين يوفّران لنا كلّ ما نريد ونتمنى، اعتاد والدي أن يصحبنا يوميًّا لنصلّي فروضنا في المسجد معه وكم كانت أجواءً جميلة !..تلك التي كانت تغمرنا جميعا حينها ! ووالدتي... ذاك الحضن الدافئ... ذاك الوجه الأنور الحنون... تلك التي كانت تسهر دومًا على راحتي أنا وأخي مُعاذ... لم تكن ترتاح حتى تطمئن علينا، كانت تعمل بجدٍّ دون كللٍ أو ملل لأجل راحتنا.....ولكن....
في...أحد الأيّام بينما كنتُ ألهو مع أخي وكان أبي يُزاول عمله كالمعتاد، إذ بغتةً دون مُقدّمات سقطت أمي على الأرض وقد أعياها التّعب والإجهاد، هرع مُعاذ لها وحاول أن يُساعدها على النُّهوض ولكنّها كانت مُتعبةً جدًّا حتى فقدت وعيها، كنتُ صغيرًا وقتها؛ إذ كنت قد بلغت عامي الحادي عشر، فحينما أبصرتُ أمي القويّة، حصني القويم، حضني الدافئ يهوى ويتهالك أمام ناظري، ذرفت عيناي دموعها واهتزّت حبالي الصوتية؛ لتصدر صوتًا عاليًا ومزعجًا صدر عن بكائي، هرعت لحضنها وأنا أهزّها وأبكي.. ولكنّي لم أكن على علمٍ أنّي كنت أُعرقل أخي ببكائي والتصاقي بأمّي عن عمله في إفاقة والدتي.
« براء! ابتعد قليلًا! توقف عن البكاء! وساعدني بإحضار كوب ماء لأمّي! » صاح بي معاذ لأوّل مرة وهو ينهرني ويأمرني بالتوقف عن الصياح والبكاء. تجمّدت في مكاني أُحدّق به وهو يتفحّص نبض والدتي بأصابع مُرتجفةٍ وسمعتُه يتمتم :« نبضُها! نبضُها ضعيف! »
حينها ازداد بكائي وطفقت الدموع تنهمر انهمارًا من مقلتاي وأنا أنادي أمي، لم يلتفت معاذ لي وهرع لهاتفه مُتّصلًا بالإسعاف ثم عاد وصار يضغطُ على صدر والدتي بسرعةٍ ولعدّة مرات متتالية دون توقف وهو ينهج بتعب وقد برزت قطيرات العرق على جبينه وهو يُنادي قرب أُذن والدتنا :« أمي! أمي أتسمعينني؟! أُمّي أرجوكي أجيبيني! » لحظاتٌ مرّت كالدهر على كلينا حتى وصل الإسعاف وحاولوا إنعاش قلب أمّي لكنّهم.... كانوا قد تأخّروا كثيرًا.... غادرتنا أمي و غادرنا دفؤها، حنانها، بسمتها، حضنها، قُبلتها الحنونة... غادرتنا روح أمي المُبهجة في ذاك اليوم فجأةً بسبب نوبةٍ قلبية مُفاجئة....
بكيتُ وبكيتُ وبكيتُ كثيرًا حتى لم أعد قادرًا على ذرف الدموع، بكى والدي كثيرًا لكنّه كان صابرًا مُتجلّدًا راضيًا بقضاء الله، كذا كان معاذ.. أخي الحبيب... كان يتألّم ورغم ذلك كان يُحاول تعويضي عنها، إسعادي، جعلي أنسى ما حدث أمام عيناي، لكن... كيف لي أن أنسى أمّي؟!
![](https://img.wattpad.com/cover/349416999-288-k110355.jpg)
أنت تقرأ
حين التقيتُك
Spirituelles🌿 الرواية حاصلة على المركز الثاني لفئة القصة القصيرة في مسابقة كأس الإبداع لعام 2023 ★ 🌿 فائزة بالمركز الثاني في مسابقةِ ريشٌ وحبر★ ﴿ طوالَ حياتي كنتُ موقنًا أنّ المرءَ يولدُ مرّةً واحدةً في الحياة إلى أن التقيتُه وأقسمُ أنّي حينها خرقتُ القوانين...