الفصل التاسع : صفحاتٌ من الماضي

303 47 67
                                    

« كنتُ صغيرًا آنذاك، حينما.... فارقتني أمّي، لم أكن قد أتممت عامي الخامس عشر بعد، كان أخي أندرو قد بلغ عامه الأوّل. في حين كانت أختي جانيت قد أتمّت عامها السابع عشر، في ذلك الوقت وقع عليّ خبر وفاة والدتي كالصاعقة، لم أُصدّق الخبر في البداية وظللتُ أرفض ذلك، ولكن بمرور الوقت افتقدتها... افتقدت قبلتها لي قبل أن أنام، افتقدتُ فطورها اللّذيذ الذي كانت تُعدّه كل صباح بهمة ونشاط، افتقدتُ حضنها الدافئ، افتقدتها.. افتقدت أمي، وأيقنت أنّها لن تعود أبدًا.كان موتها مفاجئًا؛لم تكن والدتي تشكو من أي شيءٍ إطلاقًا بل كنت أراها في أتمّ عافيتها، أخبرنا والدي أنّها مريضة وقد حُجزت في المشفى حتى تُشفى... ولكنّها... لم تفعل...

بعد وفاة والدتي تغيّر والدي كثيرًا، أصبح لا يبالي لأمرنا ولم أعد أشعر بحنانه ودفئ حضنه منذ أن غادرتنا أمي، وأصبح شغله الشاغل هو عمله وسمعته وشهرته وقد أعمى المال بصيرته.

منذ ذلك اليوم تغيّر فيّ الكثير، صرتُ عنيدًا جدًّا، صرتُ أجلس في غرفتي دائمًا قلّما أخرج منها، كنتُ حزينًا... حزينًا جدا، ولكن... بمرور الوقت اكتشفت أنّي لم أكن وحدي من أعاني؛ إذ كان إخوتي يعانون معي أيضًا، بل كانوا يعانون أكثر منّي، وبالأخصّ أختي الكبرى.... جانيت... آهٍ كم أفتقدها!

كانت جانيت تشبه والدتي كثيرًا، في كلّ شيء، و كانت قويّةً صامدةً، بعد أن توفّيت أمي صارت هي تتحمّل كلّ مسؤوليات المنزل وحدها، كما كانت هي من ترعى أندرو.

ندمتُ كثيرًا على الوقت الذي ضيّعتُه في الغضب والحزن بعيدًا عن إخوتي؛ إذ كانوا فعلًا كلّ ما تبقّى لي. حينما أدركت تلك الحقيقة نفضت عنّي كلّ شيء وهرعت لإخوتي، صرتُ سندهم.. حصنهم الذي يحميهم من كلّ ضرر ويخاف عليهم من نسمة هواء تؤذيهم، صرتُ أساعد أختي في مهامّها اليوميّة، صرتُ أهتمّ بأخي بدلًا عنها، و بدأتُ أقضي معظم وقتي معهم.. مع إخوتي. وقد كانت تلك أجمل أيّام حياتي، و شعرتُ فيها أن والدتي قد كانت بيننا، لقد عوّضتني جانيت عن الأمّ وعن الأبّ وعن حنانهما ودفئهما، كانت تهرع لي حين أحزن ولم يكن يرفُّ لها جفنٌ حتى تمسح الدمع من عينيّ وترسم بدله البسمة على محيّاي، كذلك كانت تفعل مع أندرو.

وانقضت السنين سريعا كما انقضت معها السعادة وبدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا حتى اضمحلّت وصارت سرابًا. فحينما بلغتُ عامي الرابع والعشرين تعرّفتُ على شابٍّ في مثل عمري التقيته في الجامعة وتصادقنا من يومها، ويا ليتني لم أفعل!.

كاظم.... كان صديقي منذ سنتين، على الرغم من كونه مسلمًا إلّا أنّي لم ألتفت لهذا، ورغم كره والدي الشديد للمسلمين، ورغم تحذيره لي من مصادقتهم إلّا أنْي لم آبه لذلك إطلاقًا، و أحببته وأحببتُ صداقته، قضينا الكثير من الأوقات معًا حتى خلتني قد عثرت على صديق عمري، و لم يكن والدي على علمٍ بتلك الصداقة حينها. ظللتُ مخدوعًا وواهمًا حتى تلقّيتُ منه الطعنة التي فطرت فؤادي وأيقظتني ممّا كنت فيه. اكتشفتُ أنّه محضُ مخادعٍ خائن كان يستدرجني ليوقع بي ويكسبني في صفّه. فقد دعاني في إحدى الأيّام لزيارة منزله وهناك التقيت أخاه كريم الذي فسّر لي الهدف من صداقتي لكاظم، حيث أرادني كريم أن أنضمّ لمجموعة شبابٍ قد شكّلها هو، ومهنتها كانت تهريب المخدّرات والاتجار بها. صدمت حينها صدمةً كبيرة وتمنّيت لو أنّ الأرض تنشقُّ وتبتلعني. استشطتُ غضبًا حين علمت أنّه قد تمّ استغلالي ولاسيما حين اكتشفت أنّ من كنتُ أعتبره صديقي كان مجرّد مخادعٍ يُعين أخاه في المتاجرة بالمخدرات.

حين التقيتُكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن