لم أصدّق ما أراه وأنا أركضُ تجاهها، هل... هل ما تراه عيناي حقيقةٌ فعلا؟! أم أنّه من نسج خيالي؟! لا! إنّها حقيقة! إنّها هي! إنّها هي حقًّا! بعد كلّ ذاك الوقت! لم يختلف لون شعرها البنيّ المُموّج الذي انسدل على كتفيها بنعومة عن السابق، لم تختلف ملامحها الحنطيّة البسيطة والجميلة البتّة!... ولكنّها كانت أكثر حزنًا و... انطفاءً... ركضتُ حيثُ كانت تسير وسط حشدٍ قليلٍ من الناس الذي اجتمعوا لشراء بعض الخضراوات من الباعة المُتجوّلين أسفل إحدى المظلّات العامّة، لم أعبأ لشيء وأنا أصطدم مرارًا وتكرارًا بأكتاف الأشخاص وأنا أتُمتم كلّ ثانية :« آسف.... اعذرني... عذرًا »
حتى وصلتُ لها حيث كانت مُستديرةً لي بظهرها تبتاع بعض الحاجيّات، وقفت مذهولاً وكأنّ جسدي قد شُلّ فجأة ولم أستطع الحراك وأنا أحدّق بملامحها التي اشتقت لها كثيرًا، تلك الملامح التي كدتُ أنساها، ملامح أمي الجميلة وتقاسيم وجهها، آهٍ لكم افتقدت ذاك الوجه الجميل!
تزاحمت الدموع في مقلتاي وصرتُ أكتم شهقاتي بجهدٍ كبير وأنا أُنادي بصوتٍ خفيض لم يصل لسواها :
« أختي!... جانيت! »توقّفت جانيت عن انتقاء الطماطم وجمدت في مكانها؛ لابدّ أنّها تعرّفت على صوتي، التفتت إليّ مُسرعةً وظلّت تُطالعني بهدوء وقد لاحظتُ تجمّع الدمع في عينيها، لم يدُم لقاؤنا طويلًا فسرعان ما استدارت وسارت مبتعدةً بخطى سريعةٍ، ومن هول صدمتي كنت ثابتًا في مكاني لا أتحرّك وقد سالت دموعي وصارت تتقاطر على ملابسي بهدوء خالف ضجيج قلبي المُضطرب. ألفيتُ بعض الأشخاص يجتمعون حولي وقد أقلقهم حالي الغريب وصاروا يسألونني ما إن كنتُ بخير وأنا ظللتُ أجيبهم أنّي بخير، حسنًا لم أكن أكذب... كنتُ بخيرٍ فعلا ولكن... ظاهريًّا فقط أما داخليًّا فقد كنت منكسرًا حزينًا، وما زاد من ضعفي هو رؤيتي لظهر جانيت وهو يختفي رويدًا رويدًا وتبتعدُ معه أختي بعيدًا ثانيةً، ولا أعلم إن كنتُ سأراها ثانيةً أم أنّ هذا سيكون آخر لقاءٍ مؤلمٍ بيننا. كنتُ أعلم سبب رحيلها، فهي حزينةٌ ومحطّمةٌ ممّا فعله والدي معها، وربّما تشعر بالوحدة والغضب منّي لأنّي لم أبحث عنها، ربما افتقدتني في الكثير من المواقف وكانت بحاجتي حينها، ولكنّها لم تجدني، ربما احتاجت لكتفي لتتّكأ عليه ولكنّها لم تجد لا الكتف ولا صاحبها، ربمّا احتاجت من يواسيها ويضمّد جرحها الغائر الذي خلّفته خسارة أندرو في فؤادها؛ فقد كانت له أمًّا قبل أن تكون أختًا. وددت لو أعانقها، أضمُّها إليّ بشوقٍ، أخبرها أنّي قد افتقدتُها، أُخبرها أنّي قد عانيت كثيرًا في غيابها ولكن.... حينها شعرتُ فقط برغبةٍ في رؤيتها، أردت أن أشبع من رؤية وجهها واسترجاع ذكرياتنا معًا، أردتُ أن أراها سعيدة مُبتسمةً ولكن... ولكنّها لم تكن كذلك...
ظللتُ واقفًا في مكاني لبرهةٍ تنزل دموعي بصمت على خدّاي، وأنا أستمع لوقع المطر. ثوانٍ حتى استوعبتُ الأمر ثم بدأتُ أركض لسيارتي وقدتها إلى منزل زوجها الذي اعتقدت أنّها لازالت تقطن فيه معه، طفح الكيل لن أحتمل بعدها أكثر! حينما وصلت للوجهة ترجّلت وصعدت للطابق الذي تقطن فيه ثم أخذت أطرق باب الشقّة وأرنّ الجرس حتى خرج لي رجلٌ قد بلغ منه الكبر عتيًّا واستحوذ الشيب على رأسه فاعتذرتُ منه وسألته : « أليست هذه الشقة ملكٌ للسيد جورج وزوجته جانيت يا عمّي؟! »
![](https://img.wattpad.com/cover/349416999-288-k110355.jpg)
أنت تقرأ
حين التقيتُك
Spiritualité🌿 الرواية حاصلة على المركز الثاني لفئة القصة القصيرة في مسابقة كأس الإبداع لعام 2023 ★ 🌿 فائزة بالمركز الثاني في مسابقةِ ريشٌ وحبر★ ﴿ طوالَ حياتي كنتُ موقنًا أنّ المرءَ يولدُ مرّةً واحدةً في الحياة إلى أن التقيتُه وأقسمُ أنّي حينها خرقتُ القوانين...