19 - محاولات مُرهِقة.

123 27 5
                                    

19 -

مضى شهر ونصف بالكامل، ونوالا كما هي، شاحبة الوجه، تطهو الطعام وتجلس تأكل معي، لا تتحدث كثيرًا، ثم تنهض وتسقي الورود بحديقة المنزل، تؤدي جميع واجباتها اتجاه الجميع، ولكن اتجاه نفسها فلا تفعل، أصبحت كجثةٍ تسير على قدمين، منزوعة الروح والحياة، كلما تحدثت تخبرني بأن أبي هو الفاعل، ولم أقوَ على مواساةِ قلبها قط.

« أتيت مبكرًا اليوم، ماذا حدث؟ » أتاني صوتها من حجرة المطبخ وأنا أدخل من باب البيت، فأغلقتُ الباب، واتجهتُ نحوها، أحتضنها مُقبلا جبينها كما كل يومٍ، ثم جلستُ على أحدِ كراسي طاولة الطعام الخشبية، وأنا أتمتم:

« أنهيتُ عملي، فـ عُدت إليكِ.. ولكن حدث شيءٌ ما. »

ارتفع حاجبها، تتساءل عن سببِ توتري في نهاية قولي، ثم جففت يديها بمنشفةٍ، واقتربت جالسةً على الكرسي المقابل لي، تسألني بهمهمةٍ خافتة منها، فغلغلتُ أناملي بين خصلات شعري، مرددًا:

« هاتفني أبي، يريد دعوتنا إلى العشاء، اليوم. »

« اذهب بمفردك. » قالتها بمللٍ، ثم نهضت عن كرسيها، ترى ما كانت تصنع، فنهضتُ أنا الآخر، واقفًا أمامها، مبتسمًا بخفةٍ وأنا أقول: « لن أذهب. »

هزت رأسها لأعلى ولأسفل بهدوءٍ، ووضعت ما كانت تُقطِع في الإناء، ثم عقدت ساعديها أمام صدرها، تطالعني بعينين لازال الجرح ساكنًا لهما، فنطقتُ متسائلا:

« لماذا؟ لماذا تحاولين دائمًا الهرب مني؟ »

« لا أهرب، عقلك هو مَن يختلق ذلك. »

نبست بهدوءٍ غريب، ثم أبعدتني عن طريقها، وخرجت إلى حجرة المعيشة، جالسةً على الأريكةِ، فاتجهتُ جالسًا جوارها، أنظر للفراغ، كما تفعل هي، متمتمًا:

« بلى، تهربين، أنا أعلم ذلك، وبماذا تُفكرين نوالا؟ »

« خائفة دومًا، خائفة.. هذا ما أستطيع إخبارك به. »

« من ماذا؟ » سألتها بعقدةِ حاجبين، بعد أن التفتُ لها بكامل جسدي، فهزت كتفيها بعشوائيةٍ، وقالت: « منك. »

« أقسم لكِ نوالا أني تخليتُ عن كلِ شيءٍ لأجلك، ولا أخطط لأي شيءٍ من خلفك. »

تمتمتُ بنبرةٍ صادقة، ولا أعلم إلى متى، إلى متى سأحاول التوضيح لها، وإخبارها أني صادق في قولي، أمقتُ التبرير، أشعر بالضيق منه، بالرغم من حبي لها، ولكنها تدفعني أحيانا إلى الجنون من شدة الضغط على أضعفِ أوتاري، أعلم أنها جريحة، ومع مرور الوقت ستتعافى، ولكنها لا تحاول تصديقي حتى!

« آسفة. » قالت بصوتها المهتز، فجذبتها إليَّ، أمسد على ظهرها بحنانٍ، ملتزما الصمت، وما هذه الحفرة التي وقعنا فيها سويًا؟ أردنا حياةً هادئة ولم نلقِها بعد!

حجرة ومقصحيث تعيش القصص. اكتشف الآن