عَوْدَةٌ

23 7 0
                                    

عدنا إلى منزلنا القديم، حيث وجد الحنين مبتغاه.
حينما خطوت إلى داخل المنزل؛ كان الصمت يرحب بي، وكأنه يحترم قدسية هذا اللقاء. كل شيء كان في مكانه، الأثاث القديم الذي شهد أحاديثنا و أمي، والأرفف التي احتضنت كتبي، حتى تلك الشقوق الصغيرة في الجدران التي لطالما حكت قصصاً عن صمود هذا البيت أمام تقلبات الحياة الصعبة.

أغمضت عينيّ واستنشقت بعمق رائحة الماضي، شعرت بدفء الذكريات يغمرني. كل زاوية، كل قطعة أثاث، كل نقش على الجدران، كان يستعيد حكايات طفولتي، يرسمها بألوان الحب والأمان. هنا تعلمت معنى الحياة، هنا نسجت أحلامي الأولى، وهنا عرفت معنى الشوق الحقيقي. ومع ذلك، في زوايا أخرى من هذا المنزل، عرفت معنى الخوف لأول مرة؛ شاهدت أبي يعنف أمي، أحسست بالألم مع كل دمعة ذرفتها أعين والدتي، و هنا كان انتظاري الطويل لاعتذار والدي الذي لم يأتِ.

تجولت في الغرف كأنني أبحثُ عن أجزاءٍ مني فقدتُها في بيروت، لأجدها هنا تنتظرني بصبر ووفاء. في غرفة نومي، كانت الدمى القديمة ما زالت تحتضن أسراري، والمكتب الصغير يحتفظ بآثار دروسي الأولى وأوراقي المبعثرة. كل شيء هنا يشهد على حكاية طويلة من الحب والحنين، و من الحزن و الألم، كأن المنزل يحتضنني بذراعيه، يهمس لي بأنني دائماً سأجد الأمان هنا، مهما ابتعدت فلا زالت طفولة لياء بداخلها.

استقراري في منزلنا القديم، كان كأنه عودة إلى أحضان الوطن بعد رحلة طويلة في الغربة. كل زاوية من هذا البيت، كل قطعة أثاث، كانت تحمل في طياتها جزءًا من روحي. لكن الاستقرار لم يكن سهلاً في البداية، لولا دعم أصدقائي الذين كانوا كالنسيم العليل الذي يخفف وطأة الحر.

ساعدني رفاقي في ترتيب المنزل، أعادوا الحياة إلى الأثاث القديم، ونفضوا الغبار عن الرفوف التي طالما احتضنت كتبي وأحلامي. كانت ضحكاتهم ومزاحهم تملأ الأرجاء، تنثر الدفء في كل زاوية. بفضلهم، تحول البيت من مكان تعتريه ذكريات الماضي إلى ملاذ مليء بالحيوية والأمل.

في الأيام التالية، بدأت أستعيد روتيني القديم. كنت أزور الأماكن التي ارتدتُها في طفولتي. أتجول في الأسواق التي كانت تعج بالحياة، أشتم رائحة التوابل والأعشاب التي كانت تفوح من المحلات، وتعيدني إلى أيام التسوق مع أمي. ذهبت إلى مكتبتنا، حيث اعتدت الجلوس مع أصدقائي نتبادل أطراف الحديث ونتقاسم أحلامنا.

مررت بمدرستي القديمة، حيث تعلمت أولى حروف الحياة. تذكرت تلك الأيام المشمسة في الفناء، حيث كنا نلعب ونركض بلا هموم، هناك حيث تعلمت أن أؤمن بنفسي وأحلامي. ثم الثانوية التي علمتني حقا أن الضربة التي لن تقتلك تقويك، فبعد ذلك اليوم الذي رفضتني مدرسة أحلامي، تعلمت كيف أتشبث ببصيص أمل خفيف، تعرفت على نفسي و أدركتُ قوتي.

لِنعُد غُرباءًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن