الحلقة 28

1K 33 0
                                    

جابر:كنت في قمة سعادتي،فاليوم ستصبح نور ملكي للأبد،ولن يستطيع أحد ان ينتزعها مني،كنت أتهيأ لعقد القران وأنا أعدّ الدقائق،كان يوماً طويلاً،وما أن دقت الساعة السابعة إلا وأنا في كامل استعدادي، وأصرخ في وسط البيت:هيا امي أبي تأخرنا، الجميع في انتظارنا،وقد وصل مولانا الذي سيعقد القران.جاء أبي و كان يرتدي أجمل ما لديه وهو مبتسم،وأمي التي تألقت بفستانها الثمين الرائع،قبلاني وباركا لي مقدماً،ومضينا إلى بيت عمي كريم، ما إن وصلنا حتى كانت إبنة خالتي نهى في استقبالنا وهي ممتعظة،باركت لي وهي تنظر إليّ بنظرات حنق،وحين اقتربت منها همست في أذني:ما شاء الله،أنت أجمل منها بكثير، فلا ادري ما الذي يعجبك فيها؟ فعدت خطوة للوراء ونظرت إليها بتعالي وقلت: يعجبني فيها أنها ليست مثلكِ، فهي عملة نادرة، وانا أحب أن أمتلك كل ما هو نادر وثمين.فاشتاطت غضباً واحمرّ وجهها،وابتعدت سريعاً.كنت في أشدّ الشوق إلى رؤية عروسي، ومنتظر لعقد القران وأنا على جمر،اجتمع الرجال في الفناء الخارجي، ووصل الشهود،وأخذ الشيخ الوكالة من نور،وتمّ العقد،وتنفست الصعداء، وعلت الزغاريد،وكنتُ مصراً أن أرى نور في أسرع وقت،وقد امتثلت والدتي لطلبي، وتم إخطار النساء بأنّ العريس سيدخل،وبالفعل دخلت وقلبي يخفق،وصلت إليها،شممت رائحة عطرها التي اخترقت جسدي،رفعت الوشاح الذي كان على وجهها، فكانت دهشتي، صرخت: وااو يالا جمالكِ الأخاذ،ولكنني لا أخفي عليكم، رأيت جمالاً بلا ملامح،بلا أحاسيس،شعرتُ أن نور تشبه المجسمات التي تعرض عليها الملابس في المحلات، ورغم ذلك لم أكترث، أمسكت بذراعيها، واقتربت أمام الجميع حتى شعرت انّ نفسي ينفث عليها وقلت لها بهمسٍ قاس: أصبحتِ ملكي يانور، ولن يستطيع أحد مهما يكن ان ينتزعكِ مني"وكان عليّ الأحمق هو من خطر على بالي.فعلت ما فعلت وهي لم تنظر حتى إلى وجهي،بل لم ترفع حتى رمش عينيها. تركتها وابتسامة انتصار على وجهي، وعدتّ للرجال حيث نكمل مراسيم الزفاف.وبعد أن قضينا الليلة بين رقص وغناء وعشاء، جاءت اللحظة التي ينتظرها أي عروسين، لحظة الزفة، وقد كان ذلك قبيل الفجر بقليل، أمسكت بيدها بقوة، وكأنني أخشى أن يختطفها أحد مني،إلا أن يدها كانت باردة كقطعة ثلج، حتى أنّها لم تضغط على كفي كما أفعل. كانت زفة رائعة وكان الأهل والأحبة في قمة سعادتهم،كانت ليلة أشبه بألف ليلة وليلة،وأخيراًحظى شهريار بشهرزاد التي ستحكي له حكايات الزمان،هكذا تخيلت زفافنا،حتى دخلنا مخدع الزوجية،أنا وملاكي الجميل،وما إن أغلقت الباب،حتى رأيت نور ترتعد كالسعفة،ولونها أصفر، وشفتها بلا لون اقتربت منها فقالت بصوتٍ مخنوق:جابر أرجوك ارحمني أنا لست بخير

علي: كانت ليلةً حزينة، مظلمة، وإنقطاع الكهرباء في بيتنا زادها كآبة وحزنا، أشعلت قنديلي، وأرسيت سفينة روحي على سجادة صلاتي، ولأول مرّة أشعر كيف يمكن أن نموت دون أن نموت، ولعلّ ذلك أشدّ عذاباً وألما، كنت كمن ينازع الروح، فليس سهلاً أن ترتبط روحك بإنسانة، بل وتتعلق بها، وتعقد آمال مستقبلك عليها، ومن ثم تجدها تتسرب من بين يديك وهي تصرخ وتستنجد وأنت لا حول ولا قوة، أحبكِ نور أحبكِ سأصرخ من أعماق قلبي بيني وبين نفسي، بيني وبين ربي أني احبك أقسم بالله أني احبكِ ولكنني سأكتم حبي حباً لله، وطمعاً في رضاه، سأكتم حبي لأعفّ نفسي عن الإنزلاق في الشهوات، وأنا على يقين برحمتك رباااه، ربّ مسني الضر وأنت خير الرحمين، ربّ مسني الضر وأنت خير الرحمين.
علي.. علي هل أنت بخير بنيّ؟
نعم أمي أنا بخير
أتمنى ذلك يا ولدي، جئت كي أطمئنّ عليك، خاصة وأنّ الكهرباء مقطوعة وخفت أن تنام والشمعة مشتعلة، قم يا ولدي جدد وضوئك فكلها دقائق ويؤذن الفجر
حسناً أمي، لا تبالي أنا مستيقظ
آآه أمي يا جنتي الغالية، أعلم أنكِ قلقة عليّ، وتشعرين بما في قلبي دون حتى أن اتحدث، ولكن ماذا عساي أن أقول غير:لا حول ولا قوة إلا بالله، وأفوض أمري إلى الله إنّ الله بصير بالعباد. آآه أشعر بوجعِ في صدري وخفقان في قلبي.
كانت الرياح غريبة، لها صوت حزين كأنين الثكلى، وفجأة سمعت صوت شباك الغرفة الخشبي يفتح بفعل تيار قوي بشكل أفزعني ويبدو أنني قد غفوت في مكاني، فاستيقظت على قوة الصوت مفزوعاً وإذا بالأذان يصدح الله أكبر، فوثبت وقلبي يخفق بشدة، جددت وضوئي وصليت الفجر وقلبي يعلوه هماً كبيرا، ومن ثم قرأت دعاء العهد ولكنني كنت مشتت الذهن، قلبي منقبض، وأشعر بحرارة في صدري.
ما إن انهيت الدعاء فررت هارباً على وجهي من المنزل، وإذا برجلي تأخذني إلى بيت نور، وقفت من بعيد أراقب الوضع فإذا بالحركة غير طبيعية، وسيارة اسعاف تقف على بابهم، اقتربت أكثر وقلبي يزداد خفقاناً وألما، فكانت أصوات صراخٍ وعويل، اقتربت أكثر وأنا أشعر بالموت يقترب مني، فاخترق صوت أمها قلبي قبل أذني: نور ماتت نور ماتت"
انهارت قواي، سقطت بمقربة من باب منزلهم على ركبتيّ، أردتّ أن أستوعب ما أسمع، فأذا بهم يخرجون نور بثوب زفافها الأبيض محمولة على سرير الإسعاف المتحرك، والكل يصرخ صراخاً هستيرياً، فما إن رأيتها ولمحت الشحوب على وجهها حتى أدركت أنّ نور قد فارقت الحياة، ولم أعي ما أفعل بعدها، غير أني حثثت التراب على رأسي وأنا أصرخ: قتلوا #نور قتلوا نور قتلوا نور ، أطفئوا نوركِ يا نور آآآه يا نور حياتي، وآسفاه عليكِ يا مهجة قلبي، قتلوكِ يا نور قتلوكِ
ريحانة: كان الجميع في وضع هستيري، لا يمكن أن يصدق أحدٌ ما أنّ نور ماتت في ليلة زفافها، وكأنها قصة فيلم تراجيدي خيالي، إلا أنا فقد وقفت مذهولة، ودموعي تتحادر على وجنتيّ، وأتمتم: لقد وفيت بوعدك يا #نور، وفيت بوعدك أيتها الوفية. وأنا أقف خلف النافذد الزجاجية أراقب المشهد من بعيد، وأنا في حالة ذهول، وضياع، وحزن، وألم، وخوف، وغضب، مشاعر مختلطة، لمحت عليّ من بعيد، ورأيت كيف كان يهيل التراب على رأسه ويصرخ: قتلوا نور، قتلوا نور، فهرعت إليه وإذا به قد طلب من أحد الشباب المتواجدين أمام المنزل مع الحشود الكثيرة التي أمتلأ بها المكان أن يقله إلى المستشفى لاحقاً سيارة الإسعاف، وهكذا فعلت أنا فقد ركبت مع رنا أخت نور واتجهنا للمستشفى، وما إن وصلنا إلى هناك، حتى تحول المشفى إلى مكان عزاء، وصراخ وعويل، أدخلوا نور إلى غرفة الإنعاش علّ أملاً يعود إلينا، بينما كان جابر يُجرّ على كرسيّ متحرك لا حول ولا قوة، والعم كريم يصرخ بحرقة: ضيّعت إبنتي، أما أمها فقد أغمى عليها، وأخذوها في غرفة أخرى للمعالجة، في حين كان عليّ يجلس في إحدى الزوايا منهاراً، تقدمتُ نحوه وأنا أجهش بالبكاء: عليّ عليّ نور كانت تحبك كثيراً، لقد كنت أعرف حجم معاناتها، ولكنني لم أتصور أن تكون هذه هي النهاية، فوقف على رجليه وهو يصرخ: لا تقولي النهاية، لا تقولي النهاية، نور ستعود، نور لا تموت، لا تموت.
في تلك الأثناء خرج فريق الأطباء من غرفة العناية المشددة، اقترب كبيرهم وهو يمسح عرقة: أين والد نور؟ اقترب عمي كريم وهو يتنفس بشكل سريع: أنا أنا ابوها، فقال الطبيب: عظم الله أجوركم، بذلنا قصارى جهدنا، نور قضت بسكتة قلبية، فإنا لله وإنا إليه راجعون. عمت الصرخات المكان حتى أنّك تشعر أنّ جدران المستشفى ستتهدم.
حينها اقترب عليّ ونظر في عيني الحاج كريم وقال: حسبي الله وكفى وهو نعم الوكيل، حسبي الله وكفى وهو نعم الوكيل.
فانقضّ الحاج كريم على عليّ، وقام جابر من على الكرسي المتحرك، وخنق علي، فتصارخت النساء، وحضر رجال الأمن، وعمت الفوضى المكان، وحاول رجال الأمن تهدأت الوضع، ومن ثم انصرف عليّ منكسر القلب بطلب من الشرطة، لحقته وناديته: عليّ عليّ توقف، فوقف وهو مطأطأ الرأس دموعه تنهمر دون توقف، فقلت له وأنا في حال ليس أفضل منه: عليّ لقد حملتني نور أمانة لك سأعطيك إياها في أقرب فرصة.
وأعلن خبر رحيل النور في القرية، وتم تحديد اليوم الثاني من زفافها وهو يوم الجمعة يوم تشييع جثمانها ودفنها

علي:عدتُ للمنزل ولا أكاد أصدق ما حدث، ما إن وصلت حتى استقبلاني أمي وأبي وهما في غاية القلق والخوف حيث خرجت من الفجر،وعدتُ مع وقت صلاة الظهر، وحين رأياني على تلك الحال من الحزن والتعب ازداد خوفهما، وقفت أنظر إليهما وأنا في حالة من الدهشة والبكاء وكلّ الذي أذكره انني قلت:نور ومن ثم أغمي علي، ولم أستعيد وعيي إلا مساءً، فتحت عيناي وأمي تضع لي كمادات فنهضت قليلاً وقلت لها بعد أن أمسكت بكفها: أمي هل كنت أحلم؟ أمي أين كنت في هذا الصباح؟ فدمعت عينا أمي وقالت بحنان وعطف: ولدي، {والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} حينها رميت بجسدي المضنى على السرير وكررت:إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم تظاهرت بالنوم حتى أريح قلب والدتي المسكينة، وبعد قرابة النصف ساعة غادرت والدتي الغرفة،فنهضت من سريري، وتوجهت إلى ربي، كانت ليلة قاسية، ليلة في دنيا بلا نور، صحيح أنني لا ألتقي نور كلّ يوم، وصحيح أنّ عمر معرفتي بها حسب تفكير أهل الدنيا قصير،ولكنني كنت اكتفي بأن أشعر بوجود قلبها الطاهر ينبض حباً في دنيا لوثها أشباه البشر بسواد قلوبهم، قضيت ليلتي الحزينة بين الصلاة وقراءة القرآن، وأهديتها كل عمل قمت به كعادتي، إلا أنني لأول مرة أشعر بهذا الضعف، دموعي لم تتوقف حزناً وألما، وما إن أذن الفجر،حتى صليت وقرأت دعاء العهد، وتوجهت للمقبرة،جلست في إحدى زواياها أنتظر وصول نور، وفي تمام السابعة صباحاً وصل جثمانها الطاهر، وأدخلوها للمغتسل، كنت أجلس من بعيد أقرأ القرآن تارة، وتارة أرقب الوضع منتظراً ريحانة، ما إن لمحتها من بعيد اتصلت بها وأخبرتها بوجودي وطلبت منها أن تأتي إليّ، وأتت وهي في حالٍ صعبة، وحالي لم يكن أفضل منها
فقلت لها: ريحانة رغم فداحة المصاب إلا أنّ نور في أمسّ الحاجة إلينا الآن، فالتفتي إليّ جيداً، خذي هذه تسمى حبرة يمانية، كتب عليها دعاء الجوشن الكبير بالتربة الحسينية كنت قد اشتريتها لي لأكفن بها، نور أولى بها مني، اعطيها السيدات في المغتسل هنّ يعرفن ماذا يفعلنّ بها، وهذا حجر من العقيق اليماني يستحب أن يوضع تحت لسان الميت" قلت ميت واختنقت بعبرتي، هل صحيح نور رحلت، ومن ثم أكملت: ريحانة، كم كنت أتمنى أن أراها وأودعها، ولكنني أعلم أنّه لا يحق لي ذلك، فأبلغيها عني السلام، ولا تنسي بعد تغسيلها أن الدعاء عند رأس المتوفي مستجاب، فادعي بلساني لها بأن يلحقني الله بها سريعاً وأن يرزقني إياها في الجنة. حينها بكت ريحانة، فطلبت منها أن تسرع نحو المغتسل وأعطيتها ورقة كتبت فيها بقية المستحبات، وما كانت إلا ساعة حتى خرج الجميع بصرخات وعويل، حملوا نعشها حيث صلينا عليها صلاة الميت ومن ثم بدأ التشييع في القرية، كانت القرية أشبه بمدينة أشباح، وكنت أسير خلف الجنازة الملائكية وأنا أنتحب، لم أكن أعرف حجم حبي لها إلا في هذه اللحظة، لم أكن أعرف عمق الحزن الذي يحمله قلبي لفراقها إلا حين فارقتنا، لم أكن اعرف أني أملك هذا الكم من الدموع إلا حين عرفت معنى الحب
يتبع

نورحيث تعيش القصص. اكتشف الآن