#وداعًا_أيها_الماضي...2
بقلم : رويدة الدعمي
عنوان الحلقة : الوظيفة الجديدة
مضت ستة أشهر على وجود مؤمل في بيت الحاج أحمد.. وفي إحدى المساءات دخل أحمد مكتبته الكبيرة والمليئة بمختلف أنواع الكتب والمجلات العلمية والثقافية، فوجد مؤمل قد جلس في إحدى زواياها والكتب تحيط به من كل جانب!
قال وقد سرَّه منظر مؤمل وسط تلك الكتب والمجلات :
-لماذا تفترش الأرض يا صاحبي؟ ألا تعجبك هذه الطاولة المستديرة وهذه الكراسي؟! هل تريدني أن أغيرها لك؟ صدقني فقط أشر بيدك وستجد كل أثاث هذه المكتبة قد تغير!!
ضحك مؤمل قائلًا :
- أنت من يجب أن يُصدّقني يا أبي.. كل شيء في هذا المنزل جميل بل رائع، وأروع ما فيه أنت وأمي.. وهذه الكتب!
قال أحمد وهو يسحب أحد الكراسي للجلوس عليها :
- أعرف إنك ترتاح كثيرًا عندما تدخل هذه المكتبة لكنني..
صمت أحمد قليلًا كالذي يحاول أن لا يكمل ما أراد التحدث فيه..
قال مؤمل : ماذا تريد أن تقول يا أبه؟
- أريد القول بأنك يجب أن تطّلع على العالم الخارجي؟
- لكني أطّلع عليه من خلال هذه الكتب!
- أبدًا يا مؤمل.. ما قرأته هنا يجب أن تراه هناك.
- وماذا تقصد بـ "هناك" يا أبي؟!
- أقصد عالم الحقيقة.. عالم الواقع! فأنت منذ ستة شهور تقطن هذا المنزل ولم أرك يومًا تحاول الخروج أو التنزه سوى في الحديقة المنزلية ثم تعود لغرفتك!
- أتصدّق يا أبتي لو قلت لك بأنني خائف من مواجهة الواقع؟
- نعم يا ولدي.. أعرف ذلك، وهذا ما دعاني للتحدث معك الآن حول..
- حول ماذا؟
-لماذا لا تعمل يا مؤمل؟
-أعمل! بأي مجال؟ وأنا لا أعرف من عالمي الجديد غير القراءة والمطالعة؟!!
-إعمل ضمن هذا المجال إذن..
-ماذا تقصد يا أبي؟ لم أفهم!
-أنت تعلم إنني أستاذ جامعي في إحدى الجامعات الأهلية .. ولقد تحدثت مع رئيس الجامعة بخصوص توظيفك بدلًا من أمين المكتبة الذي ترك العمل قبل فترة..
- ولكن هل سأجيد هذه الوظيفة؟ وهل سأستطيع مواجهة هذا العالم وأنا لا أعرف عنه شيئًا على الاطلاق؟
ثم ماذا لو طلبوا مني الهوية الشخصية؟ وكيف سيستقبلونني موظفًا لديهم وأنا لا أعرف حتى إسمي؟!
- إن رئيس الجامعة يا ولدي رجل طيب ولديه ثقة كبيرة بي، وأنا قد حدثته عن قصتك ولقد تفاعل الرجل معها كثيرًا ، وأصر أن تأتي معي للجامعة ليتحدث إليك شخصياً.. حتى أنه أبدى استعداده لنشر صورتك في الجرائد وكل الوسائل الإعلامية لمعرفة حقيقتك.. قاطعه مؤمل وقد قام من مكانه :
- لا يا أبي.. أرجوك! لو كنت أريد ذلك لفعلته بنفسي بدون مساعدة ذلك الرجل.. أنا لا أريد هذا الحل مطلقاً! فهناك شعور ينتابني بأنني سأجد أهلي في يوم من الأيام لكن ليس بهذه الطريقة!
- وأنا أيضًا يا ولدي.. لا أفضِّل هذا الحل مطلقاً، لكنني فقط عرضت عليك فكرة رئيس الجامعة.
- ومتى يمكن أن التقي به لأستلم بعدها الوظيفة؟
- غداً إن شئت!
قال مؤمل بعد لحظات من الصمت :
- وأنا موافق؟
خرج أحمد من مكتبه وقد إنفتحت أساريره لِما سمعهُ من مؤمل بخصوص حياته الجديدة..
أما مؤمل فقد جلس على أحد الكراسي التي أحاطت بتلك الطاولة المستديرة ومدَّ يده إلى جيبه ليخرج تلك الصورة.. نظر إليها مطولًا ثم تحدث معها قائلًا :
هل سألتقي بكِ عند خروجي إلى ذلك العالم؟
ثم عاد إلى سؤاله المتكرر :
من تكونين يا ترى؟ لطالما سألتكِ هذا السؤال! فأنا لا أعرف من الماضي الذي كنت أعيشه إلا أنتِ!
هل أنتِ أختي؟ أم زوجتي؟ أم مخطوبتي؟
لا أظنكِ أختي.. فقلبي يحدثني بشيء آخر!!
وهنا توقف عن التفكير، فلطالما حاول إجبار نفسه على نسيان أمر هذه الصورة!!
إنه يخشى أن يتعلق قلبه بهذه الفتاة وقد يُصدَم بعد ذلك بأنها إحدى محارمه!! قد تكون أخته أو إبنة أخته أو إبنة أخيه!!
نعم فهو الآن بعد قراءته لأكثر كتب الأستاذ والحاج أحمد صار يميز جيدًا بين الحلال والحرام.. وبين المحذور وغيره.
لذلك كان يمنع نفسه دائمًا من التفكير بتلك الفتاة التي لا يعرف من ماضيه غيرها!
وقبل أن يدُسَّ الصورة في أحد الكتب نظر إليها متحدثًا :
ليتكِ تستطيعين الكلام! لتخبريني عن واقعي الذي كنت أعيشه..
هل كنتُ مؤمنًا عفيفًا.. أم العكس؟
هل كنتُ محبوبًا بين أهلي وجيراني وأصدقائي؟ أم كنتُ منبوذًا نتيجة تصرفاتي؟
هل كنتُ بارًا بوالدَيَّ أم عاقاً لهما؟
هل كان لي عائلة وأخوة يحبونني وأحبهم.. أم كنت وحيداً كما أنا الآن؟
هل كنتُ ملتزماً بتعاليم ربي كالصلاة والصيام والأخلاق الفاضلة.. أم كنتُ بعيدًا عن كل هذا؟!
هل كنتُ إنسانًا صاحب هدف في الحياة؟ أم شخصًا فارغًا وتافهًا؟!
كيف بي لو كنتُ قرينًا للشيطان طوال السنين الماضية من حياتي!!
وعندما شعر بالعجز التام عن معرفة أي شيء عن ذلك الماضي اتجه ببصره نحو النافذة وهو ينظر إلى السماء بعيونٍ تملؤها الدموع..
ناجى الله بكل ألم : رحماك يا رب! رحماك يا الله.. كن معي في كل حين..
ثم صار يردد دعاء أصحاب الكهف ( ربَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).