#وداعًا_أيها_الماضي.. 14
بقلم : رويدة الدعمي
عنوان الحلقة : ما هي المضغة؟!
قالت أم دعاء بعد أن استأذنت من مؤمل :
- هيا يا دعاء.. لقد اتصل والدك وأخبرني بأنه في الطريق إلينا.
كان مؤمل في هذه الأثناء يفكر بطريقة يستطيع من خلالها إقناع خالته بحضور دعاء إلى منزلهم في اليومين القادمين، إذ كان وجودها في هذه الجلسات العلمية تشعره بالاطمئنان أكثر لمستقبله مع خطيبته، قطع سلسلة أفكاره صوت سيارة أبو دعاء ليعلن عن انتهاء الزيارة!
نظر مؤمل إلى دعاء فوجدها حائرة وكأنها تتمنى لو تبقى عندهم، همس في أذنها :
- لا تقلقي سأخرج وأتكلم مع والدك لأقنعه بحضورك عندنا غدًا وبعد غد إلى أن نكمل جلستنا هذه.
فرحت دعاء جدًا فهذه كانت أمنيتها أيضًا، وكما وعدها مؤمل فلقد خرج لإلقاء التحية على والدها ثم تحدث معه قائلًا :
- إن سمحت يا عمي سآتي غدًا إلى بيتكم لاصطحاب دعاء، وسأقوم بارجاعها قبل السابعة مساءًا، وقد يتكرر نفس الأمر في اليوم التالي من بعد إذنك طبعا.
هز أبو دعاء رأسه بالموافقة وهو يظن بأن ابنته وخطيبها وأخيرًا صارا يهيئان لأمور الزواج كالتسوق وشراء الأثاث!
قال وهو يركب سيارته بعد أن لاحظ ركوب زوجته وابنته :
- على راحتك يا ولدي.. ليس لديَّ أي مانع أبدًا.
*****
اليوم التالي :
دخلت أم خالد غرفة الضيوف وهي تحمل في يدها صحنًا جميلًا للتقديم وفيه أكواب الشاي مع الكعك الذي صنعته بيدها، قام ضياء من مكانه ليأخذ الصحن وهو يقول :
- جاء الكعك في وقته يا ماما..فهناك نقاش طويل ينتظرنا ويجب أن نتهيأ له بكل إمكاناتنا!!
ضحك الجميع في جو لا يخلو من المزاح والمرح، بعد ذلك طلب مؤمل من ميساء رفع أكواب الشاي وهو يقول :
- الآن وبعد أن أخذتم طاقة كافية لفتح الأذهان هل لنا أن نبدأ حديثنا؟
قال ضياء بصعوبة إذ كان فمه ما يزال مملوءا بالكعك :
- تكلم تكلم يا أخي .. ها نحن صاغون!
قال مؤمل وهو يلاحظ عودة ميساء بسرعة من المطبخ وجلوسها بالقرب من دعاء :
- في البداية تحدثنا عن مراحل خلق الإنسان بصورة سريعة وعامة، ثم بدأنا بالتحدث عن مرحلة تكون ( العلقة) التي ذكرها العلم الحديث وقد ذكرها قبله القرآن الكريم بعشرات القرون، والآن سنتحدث عن مرحلة ( المضغة) أو ما يعرف علميًا بـ ( التمايز)..
إذ يعيش في عالمنا الذي هو كوكب مليء بالحياة أنواع لا تحصى من الكائنات وحيدة الخلية جميعها تتكاثر عن طريق الانقسام فتكوّن نسخة عنها أثناء انقسامها.
جنين الإنسان النامي في رحم الأم يبدأ الحياة بخلية واحدة وتتكاثر عن طريق نسخ نفسها أيضًا!
وعندما تصبح عبارة عن كتلة من الخلايا المتشابهة هنا ستبدأ بالتمايز ( التخصص ) ويعني هذا أن تلك الخلايا ستتخصص بالتدريج لتكوّن براعم الرأس والدماغ والقلب والأطراف والعظام وتسمى هذه المرحلة علميًا بـ Embryo وبالنظر إلى شكلها من خلال الأجهزة العلمية المتطورة سنلاحظ إنها تشبه قطعة لحم أو علكة ممضوغة!
ولقد أطلق عليها القرآن الكريم لفظ ( مضغة) حيث قال تعالى في سورة المؤمنون - آية 14 : " فَخلقنا المضغة عظاما".
إن هذا التغير يعتبره علماء الأجنة معجزة هائلة! فالخلايا التي لا وعي لها بدأت بإنشاء الأعضاء الداخلية والهيكل والدماغ!
ففي هذه المرحلة تبدأ خلايا الدماغ بالتكوّن، تنمو خلايا الدماغ ويزداد عددها بسرعة، وفي نهاية هذه المرحلة يصبح الجنين ذو عشر مليارات من خلايا الدماغ!
كل خلية جديدة تتصرف بمعرفة سابقة إلى أين ترجع ومع أي الخلايا يجب أن ترتبط، كل خلية تجد مكانها بين احتمالات لا حصر لها، فترتبط مع الخلايا التي يجب أن ترتبط معها!
ليس فقط خلايا الدماغ بل كل واحدة من الخلايا المتكاثرة بانقسامها في جسم ذلك الجنين تقوم برحلة لا تخطأ فيها من حيث الاتجاه والارتباط فنجد أن كل واحدة تجد المكان المخطط لها وهنا تقوم بالارتباط بالخلايا التي يجب أن ترتبط معها لتكوّن باقي الأعضاء!
حسنًا.. هذه الخلايا التي ليس لها أي وعي؟ من الذي جعلها تتبع هذه الخطة الذكية؟
هنا تبدأ بعض الخلايا بالانقباض والانبساط فجأة! وبعد ذلك تجتمع مئات الآلاف من هذه الخلايا في مكان واحد لتكوّن القلب.
هذا القلب سيستمر بالخفقان طوال العمر!
بعض الخلايا المستقلة تتماسك مع بعضها، وتقيم ارتباطات فيما بينها وتشكل خلايا العروق..
ترى.. من أين تعلمت هذه الخلايا وجوب تكوين العروق وكيفية القيام بهذا؟
في النهاية تصنع خلايا العروق نظام أنبوبي رائع ليس عليه أي ثقب أو شق!
النظام الداخلي للعروق أملس وكأنه صنع بيد صانع ماهر، نظام العروق الرائع هذا سيبدأ بعد مدة بنقل الدم لجميع أجزاء جسم الجنين.
يستمر النمو في بطن الأم ، وتصل أطراف الجنين في نهاية الأسبوع الخامس إلى حال تشبه النتوء ، هذا النتوء سيصبح يدًا كاملة ، حيث تبدأ خلايا معينة بصنع الأيدي، إلا أنه يقوم قسم من هذه الخلايا بعد مدة بعمل مُحيّر للغاية! إذ تقوم الآلاف من الخلايا بتضحية جماعية.
قالت دعاء بتعجب : ولماذا يا ترى هذه التضحية؟
قال مؤمل وهو يوافقها السؤال:
- نعم فعلًا! هذا ما أريدكم أن تسألوا به أنفسكم : ترى.. لماذا تقدم هذه الخلايا نفسها؟
ثم أردف حين لم يحصل على جواب :
- هذه التضحية تخدم هدفًا مهمًا جدًا، أجسام الخلايا الميتة على خط معين ضروري لتكوين الأصابع، وتقوم الخلايا الأخرى الباقية بأكل الخلايا الميتة حتى تتشكل في هذه المناطق الفراغات اللازمة بين الأصابع!!
السؤال الذي يطرح نفسه : من أين عرفت الخلية أنها بهذه التضحية ستجعل من الطفل المولود ذو أصابع في المستقبل؟
كل هذا يؤكد لنا يا - أحبتي - مرة أخرى أن جميع الخلايا المكونة للإنسان موجهة من قبل حكيم قادر وهو الله تعالى.
ردد الجميع : نعم فعلًا.. لا يوجد تفسير آخر!
سألت ميساء :
- حسنًا هذا الشيء نراه في خلق أصابع اليد، فهل يحدث الشيء نفسه مع الساق والأرجل؟
أجاب مؤمل : نعم يا ميساء.. في هذه الأثناء تبدأ بعض الخلايا بصنع الساق، لا تعرف الخلايا أن الجنين سيحتاج إلى المشي على الأرض، رغم ذلك ستكوّن الساق والأرجل!
تكلم ضياء من غير أن يلتفت إلى نفسه قائلًا : سبحان الله!
استمر مؤمل في الحديث وقد تنفس الصعداء بعد أن سمع هذه الجملة من أخيه الأصغر والتي دلت على تفاعل ضياء مع حديث أخيه الأكبر تفاعلا ملموسًا :
- بعد هذه المرحلة تتكون حفرتان في جانبي رأس الجنين، وفي هذين الحفرتين ستنشأ العينان.
يبدأ تشكيل الأعين في الأسبوع السادس وتعمل الخلايا طوال هذه الأشهر داخل خطة لا يستوعبها العقل لتكوّن أقسام العين المختلفة بتتابع وتناسق، فتصنع بعض الخلايا ( القرنية) وبعضها ( الحدقة) وبعضها ( العدسة) وتقف كل خلية عند وصولها إلى حد انتهاء القسم الذي يتوجب عليها صنعه!
ونفس الشيء يحصل للأذن التي ستستمع إلى جميع الأصوات فإنها تنشأ بجميع أجزاءها ( الخارجية والوسطى والداخلية) في بطن الأم لتشكل بعد ذلك أفضل جهاز لاقط للصوت على وجه الأرض!
وهذا يذكرنا مرة أخرى بقدرة الله الذي منَّ علينا بنعمة السمع والبصر.. ألم تسمعوا قوله تعالى في سورة النحل - آية 78 إذ يقول عز وجل :
" والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ".
ردد الجميع بعيون دامعة وقلوب خاشعة "الشكر لله.. الشكر لله" .
نظر مؤمل إلى ساعته وهو يقول :
- يجب أن أوصل دعاء إلى منزلها قبل حلول المساء، وستكون جلستنا العلمية يوم غد هي الأخيرة بإذن الله تعالى لنخرج من هذا البحث بنتيجة إيجابية ومقنعة وخاصة لأخي وحبيبي ضياء.
قال ضياء وهو يرتب قميصه : إحم إحم.. هل سمعتما.. أنا حبيبه!
قالت دعاء وقد استاءت من كلام ضياء وظنت أنه يحاول إثارة غيرتها :
- وما يعني هذا؟
ضحك ضياء وهو يقول : إن لم يكن يعني شيئًا فلماذا تضايقتي يا ابنة خالتي؟
قالت وهي تخرج من الغرفة : كنت تنظر إلي أثناء حديثك!
كان كل من مؤمل وميساء مستغرقين بالضحك على الموقف، قال مؤمل وهو يقوم من مكانه مخاطبًا أخته :
- لم أكن أعلم بأنها تغار بهذا الشكل!
ثم التفت إلى ضياء قائلًا :
- وأنت يا أخي سامحك الله.. لماذا جعلتها تخرج وهي مستاءة هكذا؟
قال ضياء وهو يضحك بمكر :
- انظرا.. لقد أنستها غيرتها أن تأخذ حقيبتها اليدوية!
نظر مؤمل إلى حيث كانت تجلس خطيبته فوجد أنها فعلًا قد نست حقيبتها في مكانها، سمع صوت الباب الخارجي يصفق بقوة!
خرج راكضًا خلفها وهو ينادي :
- انتظري يا دعاء ما بكِ، إنكِ حتى لم توَّدعي والدتي؟
قالت وقد لاحت الدموع في عينيها :
- ودّعتها أثناء بقاءك مع حبيبك ضياء.
ضحك مؤمل بصوتٍ عالٍ وهو يسلمها حقيبتها قائلًا :
- هل فعلًا تغارين من أخي؟ وميساء هل تغارين منها أيضًا؟
قالت وهي تمسح دموعها :
- لا طبعا! لكن ضياء أغاضني كثيرًا، ألم تشاهد نظراته وضحكته الخبيثة؟!
قال مؤمل : لم يكن يقصد يا دعاء، قد يكون السبب مني ، فأنا أعامل أخوتي بكل دلال مستعملًا معهم ألفاظ الحب والحنان في حين حرمتك من كل هذا أمامهم!
قال محاولًا جبر خاطرها :
- صدّقيني أتمنى أن أناديك بأجمل الكلمات أمام عائلتي كما أفعل تمامًا أثناء سيرنا لمفردنا أو محادثاتنا في الهاتف.. لولا أن أخي ما زال مراهقًا وأختي أيضًا فتاة شابة وغير متزوجة أو مرتبطة، وأنا أراعي مشاعرهما الجياشة في هذا العمر، فمن الخطأ أن يتعامل الرجل مع خطيبته أو زوجته برومانسية أمام الجميع!
خفضت دعاء رأسها خجلًا وهي تقول : كلامك عين العقل.. أنا من يجب أن أعتذر على سرعة غضبي وانفعالي،كما وأحب أن أشكرك من كل قلبي على المعلومات التي أثريتنا بها اليوم وكلي شوق للجلسة القادمة .