#وداعًا_أيها_الماضي ..20
بقلم :رويدة الدعمي
الحلقة الأخيرة : عودة الذاكرة
صاح الجميع : ماذا؟ ما الذي تقوله؟
أجابهم مؤمل وقد سقطت دموعه صرعى أمام ذكريات الماضي المؤلم :
- نعم صدّقوني.. ما إن وقعت عيناي على الحاج كاظم في مركز الشرطة حتى عادت لي ذاكرتي ، فلقد كان هو آخر شخص علقت صورته في مخيلتي قبل الحادث، خاصة أنني قد تألمت لأجله كثيرًا عندما قام صاحبي مؤيد بضرب رأسه في الحائط بعد أن امتنع عن اعطائنا النقود، حينها وقع على الأرض وهو ينزف من رأسه بينما قمت أنا بجمع الأموال في كيس أظنه احترق مع مؤيد والسيارة في ذلك الحادث الذي نجوت منه بأعجوبة!
في هذه الأثناء وبينما كان مؤمل يسرد للجميع تفاصيل يوم الحادث دخل عليهم الحاج كاظم وهو يحمل باقة من الزهور!
اتجه نحو مؤمل وقدم إليه باقة الزهور تلك قائلا :
- عافاك الله يا ولدي.
أخذ مؤمل يد الرجل وقبلها وهو يقول :
- سامحني يا حاج.. أقسم بأنني نادم أشد الندم على ما فعلناه أنا وصديقي في تلك الليلة السوداء!
- لا بأس يا ولدي.
قام أبو خالد بتقديم التقرير الطبي للحاج كاظم والذي يثبت له بأن ولده كان فاقدا للذاكرة طيلة هذه الأشهر، أبدى الرجل قناعته بكل ما سمع ورأى، نظر إلى مؤمل قائلا :
- لقد عرفت من خلال موقفك في مركز الشرطة عندما رأيتني للوهلة الأولى بأن صحتك لم تكن تمام!! لذلك أتيت لزيارتك بنفسي، أما الآن وبعد أن عرفت الحقيقة كاملة فإني أسحب تلك الشكوى وأتنازل عن حقي في القضية.
صاح مؤمل وهو يتوسل إليه :
- لا.. لا! أرجوك يا حاج لا تتنازل عن حقك، فأنا يجب أن أنال القصاص العادل حتى ولو كان السجن لعدة أعوام، المهم أن أنال عقوبتي في الدنيا لعل الله يغفر لي في الآخرة.
دمعت عينا ذلك الرجل الطيب وهو يسمع هذه الكلمات من مؤمل مما جعله في حيرة شديدة!
حاول أبو خالد وكذلك الأستاذ أحمد وضياء من إقناع مؤمل بقبول عرض الحاج كاظم بسحب الدعوة وغلق الملف، لكن مؤمل أصر على تقديم تلك التهمة إلى القضاء ليأخذ مجراه!
*********
بعد أيام قليلة اجتمع أفراد العائلة مع الأستاذ أحمد وزوجته وكذلك دعاء وأبويها في المحكمة ليستمعوا إلى حكم القاضي بخصوص قضية خالد..
كانت عينا دعاء متجهة نحو القضبان تنتظر مجيء خطيبها ودموعها تتسابق مع دقات قلبها!
لاحظت والدتها تلك الدموع وذلك الاضطراب فمدَّت يدها لتمسك بيد إبنتها وهي تهمس لها :
- اصبري يا حبيبتي.. ولا داعي لكل هذا القلق!
في هذه الأثناء لاحظ الجميع مجيء شرطيين وهما يمسكان بمؤمل ويدخلاه قفص الاتهام!
لم تحتمل دعاء منظر مؤمل وهو يقف خلف تلك القضبان، قامت من مكانها وهي تصرخ :
- اتركوه أرجوكم، أطلقوا سراحه أيها السادة، إنه بريء فهو ليس خالد كما تتوقعون!! أقسم لكم إنه شخص آخر!
نظر إليها مؤمل نظرة حادة فقد أثار موقفها هذا غيرته وهو يرى نظرات الرجال إليها ممن كانوا في تلك القاعة!
فهمت قصده من تلك النظرة فجلست وأسندت رأسها على كتف أمها وهي تبكي بصمت!
كانت والدته وأخته هما الأخريان لا تنفكان عن البكاء والنحيب، أما ضياء فما أن جلست دعاء حتى قام من مكانه وقد صار صوته يصدح في قاعة المحكمة :
- أن كنتم تطبقون العدل فعلا فاعلموا أن ما تقوله هذه الفتاة صحيح، هذا ليس خالد كما تتوقعون انه مؤمل ذلك الإنسان الطيب الذي لا يتجرأ على إيذاء حشرة، كيف تتهموه بهكذا تهمة؟!
صارت دموعه تجري وقد بُحَّ صوته وهو يصرخ، بكى كل من في القاعة وخاصة أن الجميع كان يعرف قصة مؤمل وفقدانه للذاكرة كل تلك الفترة، امتلأت القاعة بالأصوات والبكاء، أوقفت تلك الضجة ضربة قام بها القاضي على الطاولة التي أمامه ليعلن بدأ الجلسة وهو يصيح : محكمة!
لم تدم جلسة المحاكمة طويلًا فلقد اعترف خالد بكل شيء مسبقًا، ونظرًا لحالته الصحية ولاعترافه المسبق وكذلك إذعانًا لطلب الرجل المدّعي بتخفيف الحكم عن المتهم فلقد خففت المحكمة الحكم عليه، رغم أن الجريمة كبيرة والمبلغ الذي سرقه من ذلك الرجل كان مبلغًا كبيرًا إلا أن الحكم لم يكن إلا سنة واحدة!
كان مؤمل هو الشخص الوحيد الراضي بهذا الحكم، حتى الحاج كاظم كانت أمنيته الإفراج لولا إلحاح مؤمل واصراره.
قبل أن يأخذوه إلى السجن اتجهت إليه دعاء وقد أمسكت بيديه من خلف القضبان وهي تبكي بقوة، حاول مؤمل تهدأتها قائلًا :
- لا تبكي أرجوكِ! إنها سنة واحدة ليست أكثر، بعدها سيعوّضنا الله تعالى، وسنعيش أنا وأنتِ تحت سقف واحد بكل سعادة وهناء.. أعدكِ بذلك أيتها الحبيبة.
جاءت والدته وخالته وميساء وكذلك الحاجة كريمة وهنَّ يوّدعنه ويبكين، فما كان منه إلا أن أمسك بيد والدته وهو يقول :
- لا تخافي عليَّ يا أماه، فإن الله معي وسيكون سندي ومؤنسي طيلة فترة السجن.. سأستغل هذه السنة في حفظ كتاب الله ( القرآن الكريم) لذلك تأكدي بأنه لن تصيبني الوحشة أبدًا ولن أشعر بالغربة أو الوحدة مطلقًا..فمن كان مع الله كان الله معه.
***********
بعد عامٍ كامل :
امتلأ بيت أبي مؤمل بالزينة والورود استعدادًا لخروج مؤمل من السجن..
قالت أم دعاء وهي تهمس في أذن ميساء :
- إن حزن دعاء عند سماعها خبر موت خالد لا يساوي شيئًا بالنسبة لحزنها على فراق مؤمل وهو في السجن!!
ضحكت ميساء وهي تقول :
- ولكن ما الفرق بين خالد ومؤمل يا خالتي! أوليس شخصًا وحدًا؟
قالت أم دعاء بابتسامة :
- وهذا ما كنت أقوله لدعاء في تلك الليالي التي قضتها بين الدموع والأحزان، لكن اتعرفين بماذا كانت تجيبني؟
- بماذا؟!
- كانت تقول لي : إن خالد ليس نفسه مؤمل!!
وكانت تضيف بأنها تحب مؤمل حتى أكثر من نفسها!!
ضحكت ميساء وقد بانت في عينيها الدموع وهي تقول :
- هذا لأنها ترى في مؤمل ما لم تكن تراه في خالد، مؤمل طاهر القلب صادق المشاعر رقيق الروح، لذلك تعلقت به دعاء إلى هذه الدرجة!
قطع حديثهما صوت ضياء وهو يصيح بلهفة : مؤمل، لقد جاء مؤمل!
ركض الجميع نحو الباب وهناك طالعهما وجه مؤمل بابتسامته الهادئة وهو يردد : السلام عليكم!
رمت ميساء بنفسها على أخيها وهي تقبله وتبكي، أما دعاء فلقد تسمرت في مكانها وهي تنظر لخطيبها وتردد بارتباك : حمدًا لله على سلامتك!
رد مؤمل السلام على خطيبته وكانت علامات الشوق بادية على نظراته، ثم اتجه نحو والدته التي لم تتمكن من الوقوف على قدميها بعد أن تدهورت صحتها في غياب ولدها الحبيب، احنى رأسه على يدها وهو يقبلها ويقول :
- أعذريني لأنني سببت لك كل هذا الألم على فراقي، ها أنا عدت أفضل من السابق!
قالت الأم وهي تحتضنه وتبكي :
- لقد أصبحت نحيلًا جدًا بسبب السجن يا ولدي، لا أراك أفضل من السابق كما تقول!
سلّم على خالته ثم أدار وجهه وهو يبحث عن وجه نسائي آخر!
انها الحاجة كريمة، وقف وقد وضع يده على صدره وهو يلقي عليها السلام إحترامًا وإجلالًا قائلًا :
- اشتقتُ إليكم يا حاجة، يشهد الله إنكِ أنتِ والحاج لم تفارقا مخيلتي طيلة وجودي في السجن.
وهنا دخل أبو مؤمل مع الأستاذ أحمد وهما يحملان أغراض مؤمل حيث أنهما كانا قد ذهبا إلى اصطحابه عند خروجه من السجن.
بعد أن التئم شمل الجميع وقد صدحت في أرجاء المنزل اهازيج الفرح والسرور وتجمعوا حول تلك الكعكة التي صنعتها دعاء بيديها احتفالا بعودة خطيبها، قال مؤمل :
- لا أعرف كيف أشكركم على وقفتكم معي طيلة هذه الفترة؟
قال والده وهو يشرب كأسًا من العصير:
- أتعرف كيف تشكرنا يا ولدي؟
- كيف يا أبتي؟ والله مهما عملت لكم فسأكون مقصرًا بحقكم!
- بل ستمنُّ علينا لو أكملت هذه الفرحة بتحديد موعد زواجك يا مؤمل! ها.. يا ولدي.. هل سنحدد ذلك الآن؟
احمرت وجنتا دعاء وهي تستمع إلى هذه الكلمات من عمها، وتمنت كما تمنى الجميع أن يسمعوا إجابة شافية من مؤمل!
قال مؤمل وهو ينظر إلى دعاء :
- سيكون ذلك عن قريب بإذن الله.
صاح ضياء :
- ولكن متى يا أخي؟ بالله ارحمني!
ضحك مؤمل متعجبًا من كلام أخيه وهو يقول :
- ولكن بماذا سينفعك زواجي حتى أرحمك به!؟
قال ضياء بشيء من المزاح :
- كيف بماذا ينفعني؟! إن تزوجتَ يا مؤمل فهذا يعني أن الدور القادم سيكون لي!
ضحك الجميع لكلام ضياء ثم تكلم مؤمل قائلًا :
- أنا أعرف أن دعاء قد تعذبت معي كثيرًا، ولقد طالت فترة الخطوبة أكثر من اللازم، ولقد حقق الله لي ثلاث أمنيات خلال العام الماضي وأدعوه سبحانه أن يحقق لي امنياتي الثلاث الباقية!
سألت أم دعاء بفضول :
- وهل لنا أن نعرف ما هي الأمنيات التي تحققت؟
- أولها يا خاله عودة ذاكرتي، والثانية أنني كنت قد دعوت الله أن آخذ عقوبة أعمالي في الدنيا لأني لا أقوى على عذاب الآخرة! وخاصة تلك التي تتعلق بحقوق الناس، وأظن أن السجن كانت استجابة من الله لي في هذا الشأن! أما الأمنية الثالثة فهي حفظ كتاب الله تعالى عن ظهر قلب ولقد تحققت لي بفضل الله وحفظت القرآن كاملًا خلال هذه السنة التي قضيتها في السجن.. وصدّقوني فرحتي بحفظ القرآن الكريم أكثر من فرحتي بخروجي من السجن!
دمعت عيون الجميع وهم ينظرون إلى انموذج رائع للشاب التائب وهم يستمعون إلى كلماته العذبة، وقد أنار الله وجهه بنور الإيمان، فبدى أجمل بكثير مما كان عليه في الماضي!
سألت الحاجة كريمة :
- وما هي الأمنيات الثلاث الباقية؟
- أولها يا حاجة أن أسدد ما في ذمتي لذلك الرجل المسكين الحاج كاظم، وثانيها أن يوفقني الله لأخذ أبي وأمي للحج إلى بيته الحرام، وثالثهما أن يجمعني الله بخطيبتي لتكتمل بذلك سعادتي!
قال الأستاذ أحمد :
- أما أمنيتك الأولى فلقد تحققت في ساعتها! لم اشأ إخبارك لكنك الآن تجبرني على ذلك، لقد سدّدتُ كل ما في ذمتك لذلك الرجل منذ أول يوم دخلتَ فيه في السجن!
دمعت عينا مؤمل وقد اتجه من فوره صوب أحمد وقبّله في يده وجبينه وهو يقول : كيف يمكن أن أجازيك على كل ما تفعله لأجلي!
قال أحمد وقد خنقته العبرة :
- أقسم لك يا ولدي، لو أن الله كان قد رزقني بولد من صُلبي فلن أحبه أكثر من حبي لك!
********بعد شهر واحد من خروج مؤمل من السجن تم زواجه وقد جمعه الله بابنة خالته دعاء بعد سنوات من الصبر والانتظار..
وفي السن
ة التالية كان مؤمل يقف أمام الكعبة المشرفة وهو يناجي الله بـ " مناجاة الراجين" للإمام السجاد زين العابدين عليه السلام.. ( يا من إذا سأله عبدٌ أعطاه، وإذا أمّلَّ ما عنده بلّغهُ مُناه، وإذا أقبلَ عليه قربه وأدناه، وإذا جاهره بالعصيان ستر على ذنبه وغطاه..)
بكى مؤمل وهو ينظر إلى رحمة الله تعالى في كل ما أعطاه!
بعد أيام كان واقفًا أمام قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يذرف دموع الندم ويستحي أن يدخل إلى المسجد الشريف بعد أن صار يتذكر كل صغيرة وكبيرة من أفعاله الماضية!
فجأة أحس بيد تمسك بكتفه من الخلف!
التفت فإذا به والده وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة رضا.
سأله مؤمل باستغراب :
- ألم تدخل المسجد يا أبي؟
- بل دخلنا أنا وأمك وزرنا قبر الرسول ولله الحمد، وما أن خرجنا حتى اتصل ضياء بنا ليبشرنا بأن دعاء قد أنجبت لك ولدًا!
كان الخبر مفرحًا جدًا لكن موقفه أمام المسجد النبوي فرض عليه نوع من الخشوع والاجلال، قال بهدوء : الحمد لله على سلامتها وسلامة المولود!
ابتسم الأب وهو يقول :
- ينتظرون منك أن تختار له إسمًا مباركًا!
قال مؤمل وهو ينظر إلى تلك القبة الخضراء :
- لا يوجد أمامي وأنا أقف أمام أعظم إنسان في هذا الكون إلا إختيار واحد لا غير.. مُحمَّد..
نعم قد أسميته مُحمَّد.**** النهايـــة *****