وداعا أيها الماضي 10

412 19 0
                                    

#وداعا_أيها_الماضي.. 10
بقلم : رويدة الدعمي
                    عنوان الحلقة : مؤمل ودعاء
انطلقت الفتاتان في صباح اليوم التالي إلى الجامعة، وقبل أن يبدأ جدول المحاضرات لميساء اتجهت مع ابنة خالتها إلى المكتبة..
في الطريق إلى هناك أخذت ميساء وعدًا من دعاء على أن تكون متماسكة عند رؤيتها لخالد وأن لا تخبره بأنهم عرفوا الحقيقة حتى يعترف لهم بنفسه!
دخلت ميساء المكتبة وكانت دعاء تسير خلفها بخطواتٍ بطيئة، أشارت ميساء إلى أحد الكراسي التي تحيط بطاولة كبيرة وقالت لدعاء :
- اذهبي أنتِ واجلسي هناك..
قالت دعاء بشيء من الخوف :
- ولكن أين هو الآن؟ هل يمكنني أن أراه؟
قالت ميساء وهي تخفض صوتها أكثر :
- أنه هناك، ذاك الذي يجلس خلف المكتب وأمامه سجل كبير يكتب فيه..
أدارت دعاء وجهها نحوه ثم شهقت! 
أسرعت ميساء لتضع كفها على فم دعاء وهي تقول :
- ألم تعطيني وعدًا بأن تكوني متماسكة؟
أمسكت دعاء بذراع ميساء وهي تقول بصوت مرتجف:
- أرجوكِ.. خذيني إلى أقرب كرسي، فقدماي لا تساعدانني على الوقوف!
أخذتها ميساء وأجلستها وهي تردد : اللهم.. قوة!
أسندت دعاء ذراعها إلى الطاولة التي أمامها واستسلمت للبكاء، بينما اتجهت ميساء بخطوات ثابتة نحو مؤمل..
قالت بصوت مهذب:
- السلام على أخي العزيز..
رفع مؤمل رأسه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة وهو يقول :
- السلام عليكِ أيتها الأخت الغالية.
قالت بعد هُنيهة من الصمت :
- لقد أرادت إبنة خالتي إستعارة أحد الكتب عن علم الفيزياء، ولأنها من جامعة أخرى والمكان غريب عليها بعض الشيء فلقد رافقتها إلى المكتبة، سأتركها هنا وأعود إلى محاضرتي التي لم يبقَ على موعدها إلا خمس دقائق، فأرجو أن تساعدها بالبحث عن الكتاب المطلوب.
قال مؤمل وقد شعر بالارتباك بعض الشيء :
- ولكن أين هي؟
قالت ميساء وهي تشير إلى مكانها :
- إنها هناك!
وعندما نظر إليها الإثنان كانت ما تزال تسند رأسها إلى ذراعها على تلك الطاولة!
قال مؤمل متعجبًا: ولكن ما بها؟
قالت ميساء بشيء من الجدية :
- لقد أصيبت بالصدمة عندما رأتك لأول وهلة!
ثم أردفت بابتسامة مصطنعة : فلا تنسَ يا مؤمل إنك شبيه أخي خالد!
وفي محاولة منها لتأدية دور الممثلة بجدارة قالت :
- اعذرها أرجوك ، لقد كانت علاقتها بخالد أكثر من كونها إبنة خالته.
قال بدهشة وقد شعر بتراكض دقات قلبه : وماذا تقصدين؟
أجابت دون أن تنتبه إلى ارتباكه :
- لقد كانت خطيبته وامرأته شرعًا، فلقد تم عقد القِران بينهما قبل الحادث بشهر تقريبًا.
سأل مؤمل بإحراج :
- هل لي أن أعرف اسمها؟
تحدثت ميساء مع نفسها قبل أن تجيب :
- آه لو أعرف لماذا تحاول إنكار حقيقتك، ولماذا تخفي معرفتك بأهلك!
قالت ببرود : دعاء.. اسمها دعاء.
شعر بشيء من الهدوء والسكينة عند سماعه لهذا الاسم، فما أجمل إسمها وما أشد ارتباط هذا الاسم بالله تعالى!
عندها توجه بالدعاء إلى الله أن يجعله أكثر تماسكًا ثم إتجه بنظرهِ نحو تلك الفتاة، قال في نفسه : هل ممكن أن تكون هي صاحبة الصورة؟
أدار وجهه نحو ميساء فوجدها قد رحلت!
نطق بكلمات متقطعة : لماذا تتركيني يا ميساء بهذا الموقف؟
اتجه نحوها بخطواتٍ ثقيلة وكأن قدماه قد قُيّدت بسلاسلٍ من حديد.. وعندما أصبح قريبًا منها ناداها بارتباك : دعاء!
لم ترفع رأسها، لكن صوت بكائها انقطع!
قال بأدب : هل لي أن أتحدث معكِ؟
رفعت رأسها ونظرت إليه بعيونٍ دامعة :
- خالد.. أنت خالد!
لم يستطع مؤمل تحمل الصدمة، إنها هي.. صاحبة الصورة!
تحدث مع نفسه : إذن هي خطيبتي..
أطال النظر إليها فوجدها شُبه مُنهارة من أثر الصدمة ، نظرت إليه بتوسل قائلة :
- أرجوك لا تكذب عليّ، أتوسل إليك أن تخبرني بالحقيقة!
أُسقط في يده فلطالما انتظر هذه اللحظة ..
قال أخيرًا :
- نعم أنا هو، لكن ..
صمت قليلًا ليهيئها لسماع الخبر!!
قالت بارتباك :
- لكن ماذا ؟ تحدث أرجوك..
-  لقد فقدت ذاكرتي بسبب الحادث ، وأقسم لكِ بأنني الآن لا أذكر من الماضي شيئًا!!
ملامحه الحزينة وعبرته التي اختنقت في صدره والتي بانت على نبرة صوته جعلت دعاء تصدق كل كلمة نطق بها ..
لم تعرف بماذا تتكلم، فبأي كلمات يمكن أن تواسي خطيبها بعد أن أصبحت هي نفسها غريبة بالنسبة له؟!
لقد عرفت الآن لماذا أخفى حقيقته عن أخته!
قامت من مكانها وقد تهيأت للرحيل قائلة :
- لا فائدة من وجودي هنا إذن، أنا بالنسبة إليك إنسانة غريبة!
أشار إليها بالعودة للجلوس وقد سحب أحد الكراسي ليجلس بالقرب منها، قال بأدب :
- لكنكِ خطيبتي بل وامرأتي شرعًا، أليس كذلك؟! فكيف تتخلين عني في هذه الظروف التي أمر بها؟!
خجلت من كلامه وقررت البقاء وهي تنظر إليه من خلف دموعها ..
قال وقد شعر بالارتياح لموافقتها على البقاء :
- لطالما عشت مع صورتكِ ليالٍ جميلة، كنت أتحدث معكِ دون أن أعرفكِ، وكنت أشعر بالأمان عندما أنظر إلى وجهك، وكم من مرة سألتكِ عن حقيقتي الغامضة لكنكِ لم تجيبي على سؤالي!
قالت وقد ابتسمت رغم دموعها :
- لكني كنت مجرد صورة فكيف سأجيبك؟
ابتسم هو الآخر قائلًا :
- نعم وهذا ما كان يؤلمني.. مجرد صورة!
كانت تنظر إليه بدهشة فلقد بدى فعلًا إنسانًا آخر..
كان خالد في السابق من أولئك الشباب الذين يحلقون شعر الشارب واللحية ولا يتركون لهما أثرًا ، أما اليوم فقد بدى أكثر رجولة بهما ؛ أصبح أشبه ما يكون بأولئك الممثلين أصحاب الوجوه النورانية الذين يختارونهم لتأدية أدوارًا دينية!
كما إنه كان يلبس خاتمًا من العقيق، ويمسك بيده مسبحة!!
خفضت رأسها محاولة أن تخفي عنه ضحكة خجولة جعلته يسأل باستغراب :
- أراكِ تطيلين النظر إليّ ثم تضحكين!
قالت باستحياء :
- ألن تنزعج إن أخبرتك بالحقيقة؟
قال بلهفة : لا لن أنزعج.. هيا أخبريني!
أجابت وهي تترقب ردة فعله من كلامها :
- كنتَ في السابق تنظر إلى ( الرجال المُلتحين والذين يتختمون باليمين ويحملون المسبحة أينما ذهبوا كما وتظهر سيماء السجود في جباههم ) على أنهم أناس منافقين متلبسين بالدين!!
أكملت وسط دهشته : أما اليوم فأراك صرت تشبههم طبق الأصل، فكيف لا تريد مني أن أضحك على هذه المفارقة الغريبة!
قال بألم بدى واضحًا جدًا على ملامحه :
- الظاهر أنني كنت كارهًا للدين أصلًا لذلك كنتُ ناقمًا على كل من تبدو عليه علامات التديُّن!
قالت وهي تحاول مواساته :
- لم تكن وحدك تشعر بهذا الشعور تجاه الدين، بل أكثر شبابنا اليوم للأسف الشديد تراهم ناقمين على الدين بسبب تصرفات بعض من أسموا أنفسهم متدينين!! أولئك الذين حرّموا على الناس أمورًا أحلّوها على أنفسهم، وعقّدوا الحياة بحجة التدين ، بل صاروا يدعون إلى التخلف والجهل وإلى الفتنة والقتل بإسم الدين، في حين أن اسلامنا دين العلم والحياة ودين التسامح والمحبة والسلام.
نظر إليها مؤمل بسعادة وهو يقول :
- الحمد لله الذي وهبني إنسانة واعية ومثقفة مثلكِ يا دعاء، إنني لأفتخر بكِ والله!
فعلًا إن كل ما تحدثتي به الآن كان قد أخبرني به الحاج أحمد سابقًا، وهو أيضًا متألم جدًا بسبب هذه النظرة السوداوية التي انتشرت بين المجتمع عن ديننا الحبيب بسبب أفعال الشيطان وبسبب بعض من تلك النماذج للأسف.
تساءلت بدهشة : ومن هو الحاج أحمد؟
أجابها : إنه الشخص الذي أرسله الله لإنقاذي في تلك الليلة، هل تعلمين شيئًا؟
- ماذا؟
- لم يكن الحاج أحمد منقذًا لجسدي فقط، بل أنقذ جسدي  وروحي معًا، روحي التي كانت تعاني الجحود والإنكار للخالق، فأنا اليوم بفضل عِلم وتدين ذلك الرجل الطيب أصبحتُ شخصًا مؤمنًا وواعيًا لكل ما يدور حولي، ولن تنطلي عليّ أفكار الملحدين مرة أخرى، فلقد تسلحت - بفضل الله - بسلاح العلم والمعرفة الحقيقية ومستعد اليوم أن أناقش من يدّعي عدم وجود الخالق، أو يدّعي فساد الدين وأهله.
قالت بتعجب :
- هل حصل كل هذا التغير بغضون ستة أشهر فقط؟!
قال بثقة :
- إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
قالت وهي تمسح دموعها :
- ونِعمَ بالله.
- الآن أخبريني .. هل ما زالت ميساء تصدق بأنني لست إلا شخصًا شبيهًا بخالد؟
تلعثمت بالإجابة قليلًا، إنها لا تحب الكذب لكنها في نفس الوقت قطعت عهدًا لميساء أن لا تخبره شيئًا!
قالت أخيرًا :
- أظنها كذلك!
وفي داخلها رددت : أستغفر الله.. إلهي لا أعرف ماذا أفعل فسامحني!
قال وهو يلاحظ تردد الطلبة على المكتبة :
- لقد تأخرت عن عملي، هلّا أعطيتني رقم هاتفكِ المحمول؟
قالت بتهكم :
- ولكن كيف لا يعرف الرجل رقم هاتف امرأته!
أجابها بابتسامة حزينة :
- سؤال وجيه ومؤلم في الوقت نفسه!
حاولت أن تبدد الحزن من قلبه قائلة :
- لا عليك يا خالد، أنا أمزح صدقني!
قال وهو ينظر إلى عينيها مباشرة :
- أتمنى أن لا تناديني بهذا الاسم مرة أخرى.. أرجوكِ!
سألت بدهشة : ولكن.. لماذا؟
- اسمي هو " مؤمل " فخالد كان في الماضي، أنا الآن شخص آخر.
قالت باستغراب :
- هل يعني هذا بأنني لم أعد كما كنتُ في السابق بالنسبة إليك؟
- ماذا تقصدين لم أفهم!
- مشاعرك تجاهي.. أقصد حبك لي و..
قاطعها وقد فهم قصدها :
- لا.. اطمأني!
ثم استجمع قواه وهو يقول بحياء : أنا اليوم أحبكِ أكثر من السابق، خاصة بعد أن اقتربت أفكارنا أكثر.
خفضت رأسها بخجل واستغربت من نفسها هي هذه المرة!! كانت في السابق عندما يصارحها بحبه لها تغضب وتنزعج كثيرًا، اما الآن فما الذي يحدث؟ لماذا لا يوجد شيء من ذلك الشعور؟! قالت بأدب :
- حسنًا.. سأتركك الآن مع عملك وأنتظر أتصالك مساءًا.
ابتسم محاولًا ممازحتها هو هذه المرة بالقول :
- لكن كيف سأتصل؟!! بالله عليكِ.. هل يوجد رجل غيري في هذه الدنيا لا يعرف رقم هاتف امرأته؟!
شعرت بالخجل وهي تقول :
-  كيف غفلت عن اعطائك الرقم.. سامحني أرجوك!
قال وهو يخرج هاتفه المحمول من جيبه :
- لا عليكِ.. هيا ردّدي الرقم لأسجله، وسأتصل بعد صلاتي المغرب والعشاء بإذن الله تعالى.

وداعا أيها الماضي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن