وداعا أيها الماضي 6

271 18 2
                                    

#وداعًا_أيها_الماضي..6
بقلم : رويدة الدعمي

                    عنوان الحلقة : سأبحث عنها بنفسي!
عاد مؤمل إلى المنزل في تلك الظهيرة وقد أخذ الحزن منه كل مأخذ، قالت له كريمة وهي تصب الشاي بعد وجبة الغداء :
- وضعك اليوم يا ولدي ليس على ما يرام!
انتظرت منه أي تعليق على كلامها لكن دون جدوى فصمته ظل مستمرًا.
قال أحمد :
- هل جاءت ميساء إلى المكتبة اليوم؟
قال بحسرة :
- نعم جاءت!
أردف أحمد :
- وهل تأكدت من أنها اختك؟
- نعم تأكدت!
قال أحمد بامتعاض:
- وهل سنبقى نجر الكلمات من فمك جرّا؟!
ابتسم مؤمل ابتسامة شاحبة ثم قال :
- لقد كنت إنسانًا ملحدًا..!
صاح الاثنان بدهشة :
- ماذا؟ مُلحد!
قال وقد استعدَّ لدخول غرفته :
- انظرا.. أولستُ محقّا بحزني وتعاستي؟!
قال أحمد محاولًا مواساته، وقد سحبه من ذراعه ليعيده إلى المائدة :
- لا تيأس يا مؤمل فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون!
قال بكلمات متقطعة :
- كنت فضًّا.. قاسي القلب!
قالت كريمة في محاولة لتشجيعه :
-لكنك الآن شخصًا آخر!
قال وقد أطلق العنان لمشاعره :
- انظرا إلى رحمة ربي.. لو تركني أموت في ذلك الحادث، هل تعلمون ما معنى ذلك؟ ذلك يعني خلودي في نار جهنم..!
قال أحمد وقد بدى جادًا في كلامه :
- اتركنا من كل هذا الآن.. المهم هو ماذا ستفعل للتكفير عن ذنوبك الماضية؟
- لا أعرف يا أبتي، فعلًا لا أدري هل سيغفر الله ذنوب الماضي؟!
قالت كريمة وهي ترفع أكواب الشاي :
- ما دمتَ نادمًا على كل ذلك فلقد تحقق أهم شرط من شروط التوبة وهو الندم!
قال أحمد وهو يشد من أزر مؤمل :
- أن الله تعالى يقول في محكم كتابه الكريم : " يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا ويُكفِّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم" وأنت الآن يا ولدي من المؤمنين  المتقين الذين أشارت إليهم الآية بإذن الله تعالى.
قام مؤمل من مكانه واتجه إلى غرفته، حينها قال أحمد لزوجته :
- مسكين! حتما أنه الآن يشعر بأن عليه التكفير عن ذنوب إنسان لا يعرفه!
********
مرت ثلاث أسابيع على اللقاء الذي جرى بين مؤمل وأخته ميساء.. في كل يوم كان ينتظرها تدخل إلى المكتبة، لكن الأيام تمضي ولا يوجد أي أثر لهذه الفتاة إلا في قلب أخيها المشتاق!
كانت عيناه تتجهان نحو الباب بين لحظة وأخرى فلعلها تأتي! هل إنها تيقنت بهذه السرعة بأن أمين المكتبة ليس خالد على الاطلاق!؟
كان مؤمل يتمنى أن يعرف من ميساء كل شيء عن حياته الماضية وخاصة معاملته مع والديه! فبعد أن عرف أنه في الماضي كان إنسانًا لا يؤدي حقًا لله فهو الآن يتمنى معرفة ما مدى تأديته لحقوق الناس؟
كان يعرف في قرارة نفسه ومن خلال ما جاء في الروايات العديدة عن أهل بيت النبوة والعصمة بأن أول الملفات التي يتم فتحها للتحقيق مع المسلم يوم القيامة هو ملف حقوق الناس ثم يتلوه ملف حقوق الله سبحانه وتعالى..
بعبارة أخرى فإن ذنوب الإنسان على نوعين :
ذنوب لها علاقة بالخلق وذنوب لها علاقة بالخالق عز وجل .
وتذكر  الروايات بأن الذنوب التي لها علاقة بالناس والخلق  تكون أكثر تعقيدًا وتحقيقًا يوم الحساب الأكبر!
كان مؤمل وهو جالس خلف مكتبه في ذلك اليوم يقرأ كتاب " المظالم" للسيد عبد الحسين دستغيب، وقد وجد فيه رواية عن مولى المتقين علي عليه السلام : الذنوب ثلاثة.. ذنب يغتفر حتمًا وذنب لا يغتفر أبدًا وذنب يُرجى غفرانه بفضل الله عز وجل.
ثم أكمل قراءة التعليق الذي وضعه المؤلف حول هذا الحديث الشريف إذ يقول : " ومن الذنوب التي لا يمكن غفرانها هي غمط حقوق الناس وظلم بعضهم لبعض، فعندما يقف الجاني أمام محكمة العدل الإلهي يوم الحساب فإنه يحضر صاحب الحق عليه ويطالبه بذلك".
دمعت عيناه وهو يقرأ هذه الحقائق العظيمة والتي لا ندرك نحن البشر أثرها علينا سواء في هذه الدنيا أو في آخرتنا التي لن تمضِ بسلام حتى يأخذ العادل العظيم لكل ذي حقٍ حقه.
قال في نفسه وقد أسند رأسه ويديه على مكتبه :
- ساعدني يا رب في معرفة حقوق الناس عليَّ.. هل كنت ظالمًا وعاقًا لوالدي؟ هل كنت ظالمًا لأخوتي وأقاربي؟ هل كنت مخادعًا مع أصدقائي وجيراني؟
أين أنتِ يا ميساء لتجيبيني عن كل هذه الأسئلة!
وهنا خطرت له فكرة : لماذا لا أذهب بنفسي لأبحث عنها؟ إلى متى أبقى هكذا سجين قلقي وتساؤلاتي؟
أغلق الكتاب الذي كان بين يديه ودسّهُ في جرار المكتبة ثم رفع جهاز الهاتف واتصل بالحاج أحمد :
- عفوًا أبتي.. هل لي بسؤال؟
- تفضل يا ولدي.. خير إن شاء الله!
- أحتاج عنوان ميساء الدراسي.
أخبره أحمد بالعنوان الكامل لمكان ميساء في تلك الجامعة، ثم أخبر مؤمل أحمدًا بأنه سيتأخر اليوم قليلًا بعد أن قرر لقاء أخته والتحدث معها بعد إنتهاء دوامه الرسمي ظهيرة ذلك اليوم.
وفعلًا وفي تمام الساعة الواحدة اتجه مؤمل إلى مسجد الجامعة لتأدية فريضتي الظهر والعصر، ودعا الله أن يساعده في العثور على ميساء..
ثم اتجه ليبحث عنها، وشعر أنه في بحثه هذا لا يبحث عن أخته فقط بل إنه يبحث عن ماضيه، وعن الحقوق التي يجب أن يؤديها لأصحابها.. لم يكن يفكر كيف سيوجه إليها ما يدور في فكره من تساؤلات، كان يشعر برباطة الجأش وبقوة خفية في داخله تعود لوجود الله معه وبأنه لن يتركه في شدته هذه أبدًا ما دامت خطواته جميعها تتجه نحو طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وصل إلى القاعة التي أرشده إليها أحمد ، كانت ساعة خروج الطلاب بعد انتهاء آخر محاضرة لديهم في ذلك اليوم ،اتجه نحو أحد الطلبة الذين كانوا يقفون عند باب تلك القاعة وألقى التحية ثم سأله :
- هل الطالبة ميساء حضرت اليوم للجامعة؟
قال الطالب : نعم أظنها في الداخل مع باقي زميلاتها.
ظل مؤمل واقفًا في مكانه منتظرًا خروجها، فلاحظت إحدى الفتيات وقوفه بالقرب من باب القاعة ، قالت وهي تتجه نحوه بفضول :
- تفضل يا أخ مؤمل.. هل من خدمة؟
إستغرب مؤمل من معرفة هذه الفتاة لإسمه، فهو لم يرها من قبل!
قال بثقة : أشكركِ أختاه.. أنا بانتظار ميساء.
قالت باستهجان :
- ميساء! وما الذي تريده منها؟
قال مؤمل وقد بدى منزعجًا من فضولها :
- أعذريني لما سأقوله.. لكن ألا ترين بأنك فضولية بعض الشيء!
بدت علامات الغيض والعصبية على ملامحها وهي تستمع إلى كلماته هذه.. قالت وقد قررت الابتعاد عنه.
- لا أعرف ماذا يعجبكم من هذه الفتاة؟!
أثارت هذه الكلمة فضوله هو هذه المرة! والحقيقة إنها أثارت غيرته قبل فضوله! قال وقد حاول استوقافها :
- مهلًا مهلا.. ماذا تقصدين بكلمة " يعجبكم"؟ هل هناك من هو معجب بميساء من الطلاب؟
قالت وقد استهجنت كلامه للمرة الثانية :
- وما دخلك أنت بميساء.. لها معجبين أم لا؟! لا تقل لي بأنك معجب بها أيضًا؟!
قال بعصبية : أيضًا! أرجوكِ أخبريني.. هل هذا يعني أن هناك من الطلبة من يُبدي إعجابه بها؟
قالت وقد تطافرت شرارات الغيرة والحسد من عينيها :
- نعم الجميع معجب بها.. لكن سامر أكثر من يبدي إعجابه لها!
قالت هذه الكلمات وهي تنظر إلى عينيه منتظرة ردة فعله..
قال وهو يبتعد بها عن القاعة :
- هلا أخبرتني من هو سامر؟
قالت وقد حاولت التهرب من الموضوع قليلًا :
- سأخبرك غدًا.. انتظرني صباحًا في المكتبة!
تكلم مع نفسه وهو ينظر إليها وهي تبتعد عنه شيئًا فشيئا :
- كم هو غريب أمر هذه الفتاة! إنها تعرف إسمي وتعرف بأنني أمين المكتبة! حتمًا إنها ترددت إلى المكتبة.. وإلّا كيف عرفتني؟!
قطع سلسلة تساؤلاته صوت أخته ميساء :
-السلام عليكم يا أخي!
قال وقد عادت الإشراقة إلى وجهه :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. كيف أنتِ يا أخية؟
- بخير والحمد لله.. وأنت يا مؤمل كيف حالك؟
- بخير.. انتظرتُ زيارتكِ للمكتبة خلال ثلاثة أسابيع دون جدوى
- نعم.. صحيح.
- ألم تشتاقي لرؤية أخيكِ؟
- أخي!
أوجعت هذه الكلمة التي نطق بها مؤمل قلب ميساء كثيرًا..
لاحظ الألم واضحًا على ملامحها، وقد خفضت رأسها أرضًا في محاولة لإخفاء ألمها ودموعها.
لم يستطع مؤمل فعل شيء حيالها، كان يتمنى أن يكفكف لها دموعها بنفسه ويصرخ بأعلى صوته ليعلن لها وللعالم أجمع بأنه ما زال حيًّا!

وداعا أيها الماضي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن