اللهم دبر لي أمري أني لا أحسن التدبير
الحلقة الخامسة
قرر اتباع توصيته، فقال لها بابتسامة: نورتي بيتك يا سلمى.
ـ سلمى بحياء: متشكرة.
ـ سليم مرحا: طيب مش هتتفرجي عليها وتقولي لي رأيك، وتقولي لي هنام فين؛ عشان أدخل أستريح شوية.
ـ سلمى متعجبة: هو أنا اللي هاقول لحضرتك تنام فين!
ـ سليم مشاكسا: طبعا ماهو حضرتك بقيتي مرات حضرتي، وده بقى بيت حضرتك ولازم أسمع كلام حضرتك لتنكدي على حضرتي زي أي زوجة أصيلة حضرتك.
ـ سلمى بضحكة خلابة: كل ده حضرتك في جملة واحدة.
ـ سليم شاردا وقد تاه بضحكتها: هاقولك أيه ما أنت اللي بتقولي حضرتك، والمفروض أن مكتوب كتابنا وهنعيش في بيت واحد، وأفتكر كده مش مناسب.
ـ سلمى محرجة : أسفة عندك حق، أنا بس عشان دي أول مرة نتكلم سوا، وكمان مستغربة المكان.
ـ سليم متلطفا : طيب أنا وبكرة تتعودي عليا ، لكن مينفعش تستغربي المكان لأنه خلاص بقى بيتك أنت، وأنت الوحيدة المسئولة عنه.
ـ سلمى بسعادة عارمة: متشكرة قوي يا سليم.
ـ سليم متحمسا وقد سعد لسعادتها ونطقها باسمه مجرد لأول مرة: لأ بجد يا سلمى، أنت طبعا عارفة أني سايب البيت من فترة طويلة، ورجعت بس عشان أنت هتبقي هنا، يعني أنت سبب فتح البيت ده من تاني.
ـ سلمى ممتنة وهي تتفحص الشقة بسعادة: ربنا يسعدك يارب، بجد مش عارفة أقولك أيه على ذوقك ده.
ـ سليم ضاحكا: تقولي لي هانام فين عشان ضهري وجعني من القاعدة ومحتاج أفرد شوية.
ـ سلمى تتقدم باتجاهه مسرعة : أنا أسفة جدا، أنت كنت بتنام فين؟
ـ سليم هو يشير لأحد الغرف: دي كانت أوضتي، صغيرة بسريرين عشان لو حد من أصحابي حب يبات عندي، والتانية دي، أوضة بابا الله يرحمه، هي أوضة كبيرة وفيها بلكونة وهتعجبك قوي.
ـ سلمى تلقائيا: لا أنا هانام في أوضتك.
ـ سليم موافقا: زي ما تحبي، خلاص أنا هاخد أوضة بابا.
ـ سلمى مندفعة: لا أنا هانام معك في أوضتك [ بحرج بعدما لاحظت الصدمة على وجهه] ما هو المفروض أني قاعدة معاك عشان أراعيك، فمينفعش كل واحد يبقى في أوضة، المفروض أكون قريبة دايما عشان لو أحتاجت أي حاجة في أي وقت.
ـ سليم منزعجا: براحتك، طيب ممكن تدخليني أرتاح شوية.
ـ سلمى وقد لاحظت ضيقه: أيوه طبعا، أتفضل.
دفعت كرسيه بحرص حتى دخلا للغرفة لتجدها غرفة بسيطة ولكن أنيقة ونظيفة، تحتوي على سريرين متجاورين، بالاضافة لخزانة صغيرة
ـ سلمى بهدوء وهي تشير للفراشين المتجاورين: أنهي واحد سريرك؟
ـ سليم جامدا وهو يشير للسرير بجوار الخزانة: هو ده.
ـ سلمى بتهذيب: ماشي أنا هاخد التاني، أتفضل.
اقتربت منه سلمى ووضعت يديها أسفل ذراعيه، وبذلت جهدا مضنيا لترفعه وتعدل اتجاه جسده لترقده على فراشه.
ـ سلمى لاهثة من فرط المجهود المبذول: عايز أي حاجة أعملها لك.
ـ سليم مضطربا: شكرا.
ـ سلمى وهي ترتب وسادته واغطيته : لا بجد لو محتاج أي حاجة..
ـ سليم زاجرا بعصبية: قلت لك شكرا.
ـ سلمى بحرج وهي تترك ما بيدها و تتجه لخارج الغرفة: أسفة.
خرجت بسرعة، وهي تجاهد حتى لا تبكي أمامه، فزفر بضيق وهو يلوم نفسه على احراجها بهذا الشكل، ولكنه كان منفعلا منذ عرضت البقاء معه بغرفته بتلك البساطة، كان ليتهمها بالوقاحة لولا رؤيته لمدى خجلها، اذا فالتفسير الوحيد هو أنها لا تراه رجلا تخجل من البقاء بجواره، فهو بالنسبة لها مجرد عاجز يستحق الشفقة والمساعدة، ليتأكد حدسه عندما عاونته بدون تردد، وبلا أدنى تأثر بينما هو يحترق من قربها وهو يشعر بانفاسها الحارة برقبته وليونة جسدها الملامس لظهره ورقة يديها الملامسة لصدره، لام نفسه على تفكيره فهى لم تخطئ بشئ بل على العكس هي تحاول أن تقوم بما أتت من أجله على أكمل وجه، بينما هو من فقد السيطرة على نفسه، فعلام يعاقبها هي، زفر وهو يسب سيف بسره وأخذ نفس عميق وهو يحاول تهدئة نفسه الثائرة.
ـ سليم محاولا ضبط انفاعلاته: سلمى، سلمى.
ـ سلمي بسرعة واهتمام زادا من ندمه: نعم يا سليم.
ـ سليم وهو يتطلع لأثار الدموع بعينيها: بتعملي أيه؟
ـ سلمى كاتمة نحيبها قدر استطاعتها: دخلت المطبخ، باجهز لك الأكل اللي جابه الدكتور.
ـ سليم بابتسامة وهو يشير لعينيها: ليه هو جايب لنا بصل.
ابتسمت برقة وهي تمسح عينيها بيديها ببراءة.
ـ سليم معتذرا: أنا أسف يا سلمى، وجودي في الشقة وترني وفكرني بحاجات بتضايقني.
ـ سلمى متسامحة: ولا يهمك، الغدا جاهز هتاكل دلوقتي؟
ـ سليم مشاكسا: أولا أسمها هناكل دلوقتي، ثانيا أنت هتاكلي بهدومك دي؟
ـ سلمى محرجة وبكلمات متلعثمة: أصل،آااا..
ـ سليم مقاطعا مشفقا على انكسارها: لو سمحتي يا سلمى، افتحي الدولاب، وهاتي الشنطة اللي فيه.
أطاعته سلمى فورا، وأتته بالحقيبة.
ـ سليم متوددا: الشنطة دي، فيها بيجامتين، البسي منهم دلوقتي، وبكرة أنزلي هاتي كل اللي أنت محتاجة له.
ـ سلمى ناظرة للارض تداري حرجها : أنا أسفة، ومتشكرة جدا دول كفاية قوي، المفروض حاجتي كانت تبقى معايا بس..
ـ سليم مقاطعا لها مخففا عنها احراجها الذي استشعره : أنت مراتي، والمفروض كان أني أجيبلك حاجات كتير قبل ما نتجوز، بس احنا ظروفنا خاصة شوية، عشان كده مش هنتكلم تاني في الموضوع ده تاني وتجيبي كل اللي ناقصك من سكات.
ـ سلمى رفعت عينيها اللتين امتلأتا بالامتنان لتواجه عينيه الحنونتين: شكرا يا سليم، شكرا بجد.
ـ سليم وهو يخرج المظروف من جيبه: فلوس الشهر أهم، هاتي منهم اللي أنت محتاجه، وهخلي سيف يجيب لنا فلوس تانية لمصاريف الشهر.
ـ سلمى ردت بسرعة مستنكرة : لا لا ..لا طبعا الفلوس دي كتير جدا، وهتكفي اللي ناقص والمصاريف.
ـ سليم متعجبا: أزاي يعني، دول يادوب كانوا بيقضوا الأكل.
ـ سلمى موضحة : طبعا كنت بتجيب أكل جاهز، فطبيعي ميقضوش، عامة أنا هاصرف منهم ولو خلصوا هبقى أقولك، وهو الشهر ده بس اللي مصاريفنا هتبقى كتير؛ لأن المطبخ فاضي خالص؛ الأدوات معظمها مش موجود، هاقولك على اللي ناقص وأنت تشوف هتوافق على أيه.
ـ سليم ملوحا بيده علامة الرفض : لا طبعا أنا مليش دعوة، أنت ست البيت والمسئولة هنا، واللي شايفة أنك محتاجة له هاتيه من غير ما تسألي، وفعلا أنا وبابا كنا بنأكل جاهز والحاجة اللي في المطبخ كانت على قد التسخين والشاي والقهوة.
ـ سلمى بدأت بتحريك عينيها بكل الاتجاهات لتتفادى تلاقي عينيهم فما هي مقدمة عليه يوترها : يعني لو فيه حاجة .. حاجة أنا شايفها ضرورية جدا جدا، بس .. بس تمنها غالي قوي، ممكن أشتريها بالقسط، ( شجعت نفسها واكملت بحماس ) وهأدفع قسطها من مصروف الشهر يعني مش هاتقل عليك .
ـ سليم ضيق عينيه يحاول التركيز لفهم ترددها وتوترها وحتى محاولتها للتخفيف عنه بالمصروف زادت من عدم قدرته على فهمها فعقد حاجبيه ودقق النظر اليها محاولا فك شيفرتها المبهمة بالنسبة له : ولو عايزها كاش أخلي سيف يجيبها لك.
ـ سلمى بلهفة وحماس : لا هي هتيجي لحد هنا [أخرجت هاتف محمول من جيبها] هي أساسا بتتباع أون لاين، وتقريبا مش عليها فوايد.
أندهش سليم من حماستها، وتسرعها في شراء هذا الشئ، وهي التي كانت منذ قليل تعارض في شراء احتياجتها الضرورية، فهل هي فعلا بهذا الخجل وعزة النفس أم تتصنعهما للحصول على ما تريد ببراعة، وبعد أن انتهت مما تفعله.
ـ سليم متسائلا: أشتريتي، أنت كنتي محتاجها قوي كده.
ـ سلمى سعيدة كطفلة بملابس العيد: جدا، هتفرق جامد قوي، لما تشوفها بكرة هتصدقني.
ـ سليم وقد زادت شيفرتها تعقيدا بنظره : هو أنت أشتريتي أيه؟
ـ سلمى مشاكسة له ولفضوله : ممكن تستنى لما نستلمها بكرة لأني مهما شرحت، مش هاعرف أوضح لك.
ـ سليم على مضض: أه طبعا مفيش مشكلة( ثم انتبه للهاتف بيدها ونقل نظره بينها وبين الهاتف ) بس أنت جيبتي التليفون ده منين.
ـ سلمى بتلقائية : دي عمتي كانت جابته لي أول ما خفيت عشان تقدر تكلمني من ورا جوزها، وأشتركت لي في النت وقتها، عشان أسلي نفسي.
ـ سليم منهيا تلك المعضلة التي لا زالت مبهمة بنظره : طيب يعني هنقضيها نت، امال فين الأكل اللي قلتي عليه.
ـ سلمى وهي تتحرك باتجاهه : لا طبعا جاهز، بس أنا مستنية أقعدك على الكرسي، عشان تأكل براحتك.
ـ سليم متوترا غير مستعد لتكرار تجربته لملامستها ثانية حاليا فهو لم يجمع شتات نفسه من المرة الأولى بعد فاوقفها : لا أنا مش هاقدر أقوم تاني خالص دلوقتي، معلش ممكن أكل في السرير لو مش هيضايقك.
ـ سلمى ببساطة وهي تتجه لخارج الغرفة: لا طبعا، اللي يريحك، أغير هدومي وهاجيب لك الأكل حالا.
أرتدت سلمى إحدى المنامتين، وكانت شديدة الرقة والجمال، قامت بإحضار الطعام، تناولا الطعام سويا، وفوجئ سليم بأنها قد أتت له بأناء ماء ومنظف، وقامت بتنظيف يديه من أثار الطعام بنفسها بمنتهى الأهتمام، كما قامت بتنظيف أثار الطعام وتنظيف المطبخ، تمددت على فراشها تحاول النوم ولكن لم تستطع، كان يراقب تقلبها المستمر، فيزداد توتره، مر بعض الوقت، كان هو بأشد الحاجة لمساعدتها ولكن خجل من طلبها، الي أن وجد أنه لا مفر من ذلك.
ـ سليم مترددا: سلمى.
ـ سلمى متحفزة لمساعدته: نعم يا سليم، محتاج حاجة؟
ـ سليم محرجا: أنا أسف، بس أنا محتاج أدخل الحمام.
ساعدته كما المرة السابقة لإعادته لكرسيه، ولكنه أستشعر توترها الجلي هذه المرة، دفعته بحرص حتى دخلا الحمام سويا، وقفت وقد احتقن وجهها ونظرت اليه وقد فغرت فاها منصدمة وكأنها تفاجأت بالمطلوب منها ولم تعيه إلا الأن، ليفاجأ بها وقد انفجرت بالبكاء وهى تخفي عينيها بيديها.
ـ سلمى منهارة وبكلمات متقطعة: لا.. والله مش.. هاقدر، أنا.. أسفة، أنت راجل.. وأنا مش هاقدر، أنا بقالي ساعة.. مش عارفة أنام.. قدامك، هاعمل كده أزاي، لما وافقت.. مفكرتش، كنت.. فاكرة الموضوع عادي، بس.. مش قادرة.
صدم سليم بانهيارها، ولكن ذلك لم يمنع أن تجتاحه السعادة لخجلها منه، ورؤيتها له كرجل يثير وجودها معه توترها.
ـ سليم مهدئا: هششش هششش أهدي يا سلمى، الكرسي ده فيه فتحة للحمام، أنت مش هتعملي حاجة تحرجك، وبعدين احنا مكتوب كتابنا.
ـ سلمى وهي تحاول التماسك: أنا أسفة ،أسفة ،والله أسفة.
ـ سليم ضاحكا منتشيا: طيب أيه أنت وقعتي قلبي، بصي أنا هارفع نفسي على أيد الكرسي، وأنت هتغمضي عينيكي وتشدي الهدوم بس وتخرجي لحد ما أناديكي، وهتدخلي وأنت مغمضة برضه.
نفذت كل ما أمرها به حتى أعادته إلى جوار فراشه.
ـ سليم ضاحكا ملء فيه: دي كانت حرب مش حمام.
ـ سلمى وقد تضرج وجهها بحمرة الخجل من فعلتها ومن الموقف برمته : أنا أسفة.
ـ سليم مبتسما: ولا يهمك، أتفضلي أنت بقى على الأوضة التانية عشان تنامي.
ـ سلمى مصرة: لا، أنا قاعدة معك عشان أراعيك، فمينفعش تبقى في أوضة لوحدك، المفروض أكون قريبة دايما عشان لو أحتاجت أي حاجة في أي وقت.
ـ سليم ضاحكا: أنتي تاني، أيه ما بتحرميش ؟
ـ سلمى مصرة رغم اضطرابها: لا بجد يا سليم، أنا مش هاسامح نفسي لو سيبتك تنام لوحدك، كفاية اللي عملته فيك في الحمام.
ـ سليم بابتسامة: والحل.
ـ سلمى مفكرة: السريرين وهم متوازين كده مخلينك شايفني، لكن لو خلينا سريرك ساند ضهره على سريري، يعني عملناهم حرف L هيبقى ضهرك ليا وهنام براحتي.
ـ سليم متفهما: طيب أدخلي نامي في الأوضة التانية دلوقتي، وبكرة نشوف حد يظبط الأوضة.
ـ سلمى متحمسة : هي مستاهلة نجيب حد، دي تتعمل في دقيقة واحدة.
ـ سليم مستهزئا : ومين هيعملها؟
ـ سلمى بتلقائية: أنت طبعا مش أنت الراجل.
ـ سليم منصدما ومشيرا بيده على نفسه : أنا!
ـ سلمى ببساطة: الموضوع بسيط أنا هشيل لك السجادة وبعدين أجي أثبت لك الكرسي، وأنت هتزوق السرير وهو يتزحلق معك بسهولة لأن الأرض سيراميك.
حاول الأعتراض، ولكن غروره الذكوري رفض التخاذل أمامها، ولدهشته وجد الأمر بنفس البساطة التي قالتها، لينتهي الأمر وكلا منهما على فراشه.
ـ سليم غامضا: مرتاحة كده يا سلمى؟
ـ أتاه صوتها هادئا من خلف ظهره: أيوه، جدا طبعا، تصبح على خير.
ـ سليم وهو يكبت ضحكه: وأنت من أهله.
قالها وهو يطالع صورة نصفها الأسفل المنعكس في مرآة الخزانة، بينما نصفها العلوي يتوارى وراء خلفية فراشه، محاولا كتم صوت ضحكاته؛ حتى لا تنتبه تلك الغافلة ، أنها حين غيرت أتجاه فراشه، من مجاور للخزانة لمواجها لها، قد جعلت الأمر أكثر سوءا.
في اليوم التالي بشقة سليم
أستيقظ سليم فوجد أن سلمى قد سبقته للاستيقاظ ، وترتدي ملابس الخروج.
ـ سليم مندهشا: أنت لابسة ليه ؟
ـ سلمى وهي تكمل ترتيب السفرة للافطار : مستنياك أستاذنك، أنزل أشوف أقرب ماركت؛ عشان أشتري حاجة الأكل، وكمان تدخل الحمام قبل ما أنزل.
ـ سليم راضيا مبتسما: ماشي يالا بينا، بس من غير عياط المرة دي.
ـ سلمى غاضبة بطفولة ممسكة بكرسيه تدفعه تارة وتتوقف تارة مشاكسة له : أنت هتمسكها لي زلة.
ـ سليم ضاحكا: بصراحة أه.
امتزجت ضحكاتهما سويا، وهي تساعده بالتحرك، وتم الأمر كالمرة السابقة ولكن دون انهيارها، ليتناولا أفطارهما، ثم تذهب للتسوق وتعود محملة بالكثير من المشتريات التي أنهمكت في تنسيقها، وقبيل الثانية ضهرا خرجت اليه مهرولة .
ـ سلمى : سليم الناس جايين اتنين ونص، هاغير عشان أكيد مش هاقابلهم بالبيجامة (همت بدفع الكرسي باتجاه الصالة ) أنت كمان أخرج يالا بره عشان تقابلهم أول ما يجيوا، مش هينفع طبعا اقابلهم ست لوحدي.
خرج مستسلما وهو يكاد يموت فضولاً لمعرفة ذلك الشئ الذي تنتظره بكل هذه اللهفة، لم يمر الكثير من الوقت، حتى أتت الشحنة، انهت هي إجراءات الإستلام بلهفة، بينما هو يتطلع لذلك الصندوق الذي تدل الصور عليه والكلمات، على أنه يحتوي على كرسي متحرك حديث، بمجرد انصراف المندوب قامت بفتح الصندوق، وإعداد الكرسي للإستخدام.
ـ سلمى مقتربة منه محاولةً مساعدته لترك كرسيه القديم : يالا يا سليم عشان تجرب الكرسي الجديد.
ـ سليم بفتور : وهتفرق في أيه بس عشان تجيبي حاجة غالية كده.
ـ سلمى لاهثة وهي تساعده للانتقال للكرسي الجديد : مش لما تجربه الأول، وتشوف فارق ولا مش فارق.
أخذت تلهث من الحماسة ومن الجهد الذي بذلته لنقله، ثم أخذت في ربط أحزمة الأمان المتعددة الموجودة بالكرسي الجديد، ليفزع سليم من ربطها له، متذكرا فعلة عامر به فبدأت انفاسه بالعلو واللهاث ويداه تتحركان بعشوائية لتبعداها قدر المستطاع عنه و يدفعها مانعا اياها من تقيده: أنت بتربطيني ليه؟ ابعدي عني .. اللي أنت عايزاه خديه، خدي اي حاجة من غير ما تربطيني ، خدي اي حاجة وأمشي.
صدمت وهي تستمع لأتهامه الذي تعلم سببه، تلك التجربة المؤلمة التي قصها عليها سيف حين عرض عليها زواجها من سليم، أحست بالإهانة من اتهامه لها وشكه فيها، ولكنها أشفقت عليه وشعرت بالغصة بحلقها،لمعرفتها بقسوة تلك التجربة وتأثيرها عليه فتغاضت عن مشاعرها محاولتا إحتواءه.
ـ سلمى بحنان وهي تحاول ان تمسك بيديه اللتين يلوح بيهما علامة الرفض ألمها تخبّط يديه بيديها ولكنها لم تستسلم وكررت المحاولة حتى قبضت على يديه بحنان : أهدى يا سليم، أهدى، أنا مش بربطك، دي أحزمة أمان للكرسي؛ عشان في مفاجأة ( رافعة احدى يديها تمسح بها على شعره بعد ان استشعرت هدوءه النسبي ) سليم ارجوك ، انا مستحيل أأذيك ، دا انا سلمى مراتك ، مش هاربطك والله .
أخذت في تهدئته حتى سكن بين يديها بعض الشئ ، فأمسكت بالأحزمة أمام وجهه، تستأذنه بصمت أن يسمح لها بتكملة ما بدأته، فأومأ لها بالموافقة مترددا، فأكملت عملها بسرعة، وقفت وهي تتأمله بحماسة، ثم أمسكت بجهاز التحكم المثبت بذراع الكرسي، ففزع وهو يشعر بالكرسي يتحرك به بطريقة غريبة، ليجد أن الكرسي قد أتخذ وضعا رأسيا، ليصبح داعما له في وضع الوقوف، الذي نسيه منذ سنوات.
فغر فاهه مصدوما وهو لا يصدق أنه قد فرد هامته أخيرا ولو بواسطة داعم، وجد نفسه يتفحص كل ما يحيطه بشغف وكأنها ستتغير لمجرد أنه ينظر لها واقفا، سعد بقرب الأشياء المرتفعة عن الأرض، وابتعاد القريبة منها وكأنه أرتفع ليسبح بالفضاء، لأرتفع بما يوازي المتر على الأكثر، جاش صدره بمشاعر متضاربة حاول مجاهدتها حتى انتصرت عليه فأجهش بالبكاء.
ـ سليم يمسح الدموع من عينيه فتعاود ذرف المزيد وكأنها نبع لا ينضب : أنا واقف يا سلمى، أنا واقف، متشكر، متشكر قو..
غلبته دموعه أكثر، فلم يستطع تكملة كلماته ودموع تنهمر بشدة وجسده ينتفض بعنف، فخافت عليه من مدى تأثره بالمفاجأة، فصعدت لمقعد مجاور لكرسيه وضمته لصدرها وهي تربت عليه بحنان، دفن وجهه بعنقها، وهو يضمها اليه بقوة وهو يهمس ببضعة كلمات متفرقة تدل على مدى تأثره، زاد من الضغط على جسدها النحيل، فشعرت بالحرج وحاولت الخروج من حضنه بلطف، فشعر بها وفك أسرها محرجا، لينفجر ضاحكا وهو يتطلع لها.
ـ سليم بضحكات مختلطة بدموعه: أنت واقفة على كرسي علشان تحضنيني.
ـ سلمى مستاءة بطفولة: ما أنا مكنتش أعرف أنك طويل قوي كده.
ـ سليم مشاكسا: لا الحقيقة أنك كنت قريبة من طولي وأنا قاعد على الكرسي، بس مكنتش أتخيل أنك قصيرة قوي كده.
ـ سلمى مغتاظة وهي تتحرك بعيدا مهرولة: ماشي يا سليم، أنا غلطانة أني خفت عليك، وقلت أساندك وجدانيا، أنا داخلة أكمل الغدا.
ذهبت للمطبخ تتبعها ضحكاته، ونظراته الحنون، وهو يوقن بأن سيف كان محقا، فقد وجد عندها ما أفتقده طوال حياته، وجد لديها الأمومة والدفء.
في شقة نهى
وقفت نهى مستترة وراء النافذة تنظر للسيارة التي تنقل محتويات شقة جارتها ابتسام، كانت تشعر بالحزن فبعد أن وجدت أنسانة تحبها فعلا وتخاف عليها، حتى وأن لم تستطع الأقتراب، ها هي ترحل ولا تستطيع حتى وداعها، فزعت على صراخ أبناءها يتشاجرون.
ـ نهى صائحة: بس يا ولاد بطلوا زعيق، سيب شعر أدهم يا أدم ده لسه صغير.
ـ أدم بوقاحة: قولي له هو يسيب العربية أنا عايزها.
ـ نهى صائحة: يا حبيبي دي عربيته هو، سيبها له وسيب شعره عشان ما أعاقبكش.
ـ أدم بوقاحة: بس يا كلبة، أنا هاقول لتيتا أنك بتزعقي لي وهي هتخلي بابا يضربك.
ـ نهى بصدمة: أنا كلبة يا أدم، أنت بتشتم ماما، طيب تعالى بقى.
أقتربت منه، ففر هاربا وهو يتجه لشقة جدته، وهو يصرخ صائحا بأسم جدته ، فعضت على شفتيها قهرا وهي تعلم بأن ما توعّدها به الصغير سوف يحدث، فلن تصمت جدته على تقريعها له وهي التي حذرتها مررا من مضايقة أحد الطفلين حتى لو أخطأ، فهما ولدين وليسا بنتين لتعودهما على الطاعة والخضوع، بل يجب أن ينشأا صلبان لا يخشيا أحدا ليخشاهما الأخرين.
بعد عدة أيام بشقة سليم
ـ سلمى مبتسمة بمشاكسة: أيه يا سليم أنت هتفضل اليوم كله واقف في البلكونة ؟ مش هنتغدى؟
ـ سليم بنشوى: {واقف في البلكونة} أحلى كلمة سمعتها من سنين.
اتجهت اليه وضغطت تحكم الكرسي لتعيده لوضع الجلوس، ووجهته لمائدة الطعام، وهي تنظر لوجهه الممتعض لإجلاسها أياه.
ـ سلمى بابتسامة : حقك عليا ، أقف براحتك بعد الأكل، يالا دوق وقولي رأيك.
ـ سليم يضع لقمة في فمه منتشيا من لذة طعمها : طبعا تحفة، أنا بجد عمري ما دوقت أكل زي أكلك، تسلم أيدك.
ـ سلمى تحمحم بمرح وتكمل سكب الطعام امامه ضاحكة : تسلم يارب، بألف هنا، قولي بقى، تحب تأكل أيه بكرة أن شاء الله.
ـ سليم يبتلع ما في فمه : لا بكرة متعمليش أكل، سيف قالي أنه جايلي بكرة وجايب زيارة الحاجة، فناكلها سوا.
ـ سلمى مستنكرة : لا طبعا ما يصحش.
ـ سليم : ليه يعني احنا متعودين على كده من زمان.
ـ سلمى موضحة: زمان حاجة ودلوقتي حاجة تانية، زمان أنت كنت عازب وبتاكل جاهز فطبيعي أنك تقبل هديتها وتكلوها سوا، دلوقتي أنت راجل متجوز وعندك بيت وتقدر تعزمه، الزيارة هناخدها، لكن مش هينفع نعزمه عليها أنا هاوضب لكم غدا حلو، وكمان هاجيب زيارة حلوة تديهاله يديها للحاجة وهو رايح لها المرة الجاية، هي دي الأصول.
ـ نظر اليها سليم بافتتان وتوهجت عينيه من فرط السعادة فهي كل يوم ترغمه على احترامها اكثر وبناء لبنة جديدة في صرحها المشيد حديثا بقلبه : براحتك، أعملي اللي شايفه مناسب .
ـ سلمى ببساطة: خلاص أخر النهار أجيب طلبات العزومة، وأشتري هدية الحاجة بالمرة.
ـ سليم مواربا بطلبه منتظرا ردها : وياريت تشتري هدوم زي ما اتفقنا، على الأقل حاجة مناسبة تتغدي بيها معنا.
ـ سلمى مكملةً تناول طعامها وبلامبالة : وأنا هتغدى معكم ليه، ده صاحبك أنت ، وجاي لوحده مش معه مراته ولا حاجة، يبقى الطبيعي أنكم تتغدوا لوحدكم، وأنا هاسلم واجهز الأكل على السفرة، وأدخل أوضتي.
ـ سليم ناظرا للملعقة التي توقفت بطبقه مضيقا عينيه : عادي، بس أفتكرت يعني عشان أنتم أصحاب من المستشفى زيي أنا وهو.
ـ سلمى مستنكرة بإستياء: صحاب أيه بس يا سليم، أساسا مفيش حاجة أسمها صحوبية بين راجل وست، وبعدين الوضع مختلف؛ أنت كنت في مصحة خاصة يعني العدد قليل والدكتور بيشرف على عدد محدود من المرضى وعنده وقت ياخد ويدي معهم، لكن أنا كنت في المستشفى الحكومي والعدد كبير جدا والدكاترة قليلين، وتقريبا بيشوفونا بالعافية، مش يقعدوا يصحبونا، والأهم من ده أنه عندكم كان في قسم الرجال، وأنه يصاحب أي حد منكم ده عادي، لكن عندنا كان مسؤول عن الستات ولو أتلاحظ أنه بيتكلم مع حد زيادة ، هتبقى مش كويسة في حقه، ودكتور سيف راجل محترم ومش هيحط نفسه في موقف زي ده.
ـ ابتسم سليم بانتشاء فقد وصل لمأربه : خلاص اللي أنت شايفة أنه صح ويريحك أعمليه.
ـ ترددت سلمى قبل ان تسأله : يعنى أي حاجة أشوفها صح وهتريحنا، أعملها ولا دي بس ؟
ـ ستقتله تلك الجنية يوما ما لا محالة فمبادراتها لا تنتهي واقتراحاتها لا تنضب فرد مقهقها : ربنا يستر، ناوية على أيه المرة دي يا سلمى.
ـ سلمى مترجية: بصراحة ناوية على حاجة كبيرة قوي، ومينفعش تبقى مفاجأة زي الكرسي، المرة دي لازم تقتنع وتوافق.
ـ سليم مقطبا ما بين حاجبيه : حاجة أيه دي، موضوع الكرسي كان فكرة حلوة فعلا، بس معتقدش أني ناقصني حاجة تاني، أنا عايش كده كويس جدا.
ـ سلمى وقد خبت حماستها قليلا فهي تتمنى منه ان يقوم بما لا تقوى هي على فعله تتمنى ان تتجاوز محنتها وتقوي نفسها ولكنها اضعف من ان تخطي خطوة واحدة بطريقها الذي تتمناه وهاهي تحاول ان تحقق ما تتمنى مع سليم فعلى أحدهما ان يكون أهلاً لمواجهة الشارع ومن فيه على أحدهما ان يكون عونا للاخر وهي ستكون عونا له هون داخل جدران تلك الشقة حتى يخرج ليصبح عونا لها خارج تلك الجدران ، فردت معاتبة : عايش أه، بس مش مفروض أنك تبقى عايش بس، مطلوب منك أنك كمان تتعايش، مش المفروض أن لما يحصل لنا مشكلة أو حتى مصيبة، أننا نركن على جنب نتفرج على الدنيا وهي بتجري من حوالينا، المفروض نجري معاها، ونعمل كل اللي نقدر عليه عشان حياتنا تبقى أنسب لظروفنا الجديدة، [مشيرة لكرسيه الجديد] الكرسي ده مثلا موجود من أول ما أنت اتصبت، كان ممكن تشتريه من وقتها، وكان هيسهل عليك حياتك وتبقى مش معتمد على حد اعتماد كلي، ، ليه حرمت نفسك من كل ده من الأول.
ـ سليم معترضا بروح يائسة خانعة : حياة أيه اللي هاجري معاها وأنا مش قادر أمشي أصلا، اللي زيي حلهم الموت، وعشان حرام أسعى له أديني مستنيه.
ـ سلمى محتوية مشاعره المضطربة : أستغفر الله العظيم يا سليم، لو حلك الموت كان ربنا كتبهولك وموتك ، المشكلة في الأفكار اللي مليت دماغنا من غير ما نحس، أي قصة أو فيلم لازم البطل المبتلى يفتّح أو يمشي أو تحصل معجزة ويخلف عشان النهاية تبقى سعيدة، [مستنكرة] وكأن مينفعش تبقى سعيدة حتى في وجود الإبتلاء ده، مع أن الحقيقة مش كده خالص وياما ناس نجحت وهي لسه مصابة وغيرهم إبتلاءهم كان هو سبب نجاحهم.
ـ سليم مستاءا لإشاراتها لإستسلامه وضعفه: وأنا أيه في أيدي أعمله عشان أبقى بتعايش من وجهة نظرك.
ـ سلمى متفهمة ومشجعة: عارفة أنك أنسان ذكي جدا، اتكيفت مع ظروفك ووفرت لنفسك دخل محترم، وحتى لما مرتحتش في شقتك، مهتمتش بكلام الناس، وقعدت في المكان اللي لاقيت فيه راحتك، [مستهجنة] لكن ممكن أعرف واحد عنده مشاكل في طلوع السلم أيه اللي يقعده في شقة في الدور الرابع من غير اسانسير.
يا الله على هذه الرقة وهذا الحنان وكيف أختصرت شلله وعجزه التام لمجرد مشكلة في صعود الدرج، حدث نفسه بهذا وقد نسى ضيقه من اتهامها له بالتخاذل أمام أختيارها المراعي للكلمات وأسلوبها المحبب للنفس.
ـ سليم مستعطفا: وأنا في أيدي أيه بس يا سلمى.
ـ سلمى مشجعة وقد لمست منه بصيصا من امل : كل حاجة يا سليم، كل قرارات حياتك في أيدك أنت، تقدر تبيع الشقة دي وتشتري شقة في دور أرضي، وتخرج وتيجي براحتك من غير حبستك دي.
ـ سليم متوترا وملوحا بيده ذهابا وايابا : لا طبعا أنا مش عايز أخرج ولا أقابل حد، أنا مبسوط كده.
ـ سلمى بآسى: ليه بس كده يا سليم، أنت بتضيع أحلى سنين عمرك في وهم وانتظار حاجة ربنا بس اللي عارف ميعادها.
ـ سليم بحسم: من فضلك يا سلمى أقفلي الموضوع ده نهائي، على الأقل دلوقتي، وأنا لما الاقي نفسي هاقدر أخرج واقابل حد هعمل ده من نفسي.
ـ سلمى شاردة بحزن وقد آفل بصيص الامل الذي تأملته : براحتك يا سليم.
استمر شرودها وحزنها، طوال فترة تناول الغداء وما تلاها حتى حان موعد نومهما، تمدد على سريره بعد أنتقاله من كرسيه.
ـ سلمى بابتسامة حزينة: تصبح على خير يا سليم.
ـ سليم مستاءا: أيه يا سلمى، هتفضلي مبوزة كده علطول، مكنتش أعرف أنك من الستات اللي لو جوزها ما سمعش كلامهم تقلب وشها وتنكد عليه.
ـ سلمى نادمة ومعتذرة: لا والله أنا أسفة لو كنت ضايقتك، أنا مش قاصدة، أنا بس خيالي كان سرح بيا شوية لحاجة كده وأتأثرت لما بعدت عني.
ـ سليم بفضول: حاجة أيه دي
*********************
ياترى عندنا كام نعمة مش حاسين بقيمتها وغيرنا محروم منها، وأيه اللي بتفكر فيه سلمى وسليم هيغير رأيه ولا هيتعنت أكتر.
****************مع تحياتي
منى الفولي
****************