بعد أسبوعين

127 2 0
                                    



بعد أسبوعين من تلك الجلسة التقيت بها وأنا عائدة إلى الفندق بالمقهى، كانت تنظر إلى أضواء المدينة من النافذة وتحمل تلك السيجارة المزعجة بيدها وتشرب القهوة، تساءلت عندما رأيتها إن كانت تأكل أو تشرب شيء سوى القهوة والدخان.. شعرت برغبة لإلقاء السلام وإطعامها شيء ما، فاتجهت إليها.

"السلام عليكم سيدة مِسك"
ابتسمت وبدا أنها مسرورة لِرؤيتي. ردت السلام و دعتني للجلوس. جلست وسألتها إن تناولت العشاء فقالت:
"أنا لا أتعشى، أفضل الخفة بالليل"
"ما رأيكِ أن تكسري القاعدة اليوم وتتناولِي معي العشاء الليلة؟"
"ألن يكون من الأفضل لو فعلتِي ذلك مع زوجك؟ دعينا نمضيها بقهوة"
"لا، زوجي لا يحب تناول العشاء مثلكِ.. هيا جاريني، لا نعلم إن كنا سوف نلتقي مجددًا، ما رأيك؟"
"حسنا، لكن على حسابي"
"لن نختلف، ماذا تأكلين؟"
وطلبنا الطعام، أكلت لقمتين مجاملةً لي، بالحقيقة لم أكن جائعة، لكن أكلت حتى أجبرها على الأكل. سألتني:

"هل تسكنون هنا؟"
"لا، نسكن في اسطنبول. لكن أحيانًا نضطر للقدوم وإمضاء فترة هنا لأجل الإِعتناء ببعض الأعمال. ماذا عنكِ؟"
"أنا حاليًّا لست مستقرة، أين يوجد لي عمل أذهب"
"هل تعملين هنا؟"
"أجل، جئت منذ شهر إلى هنا، أعطيت دورات مكثفة باللغة الإنجليزية في عدة جمعيات، أنهيت آخر دورة منذ ساعة تقريبا، سوف أسافر قبل الفجر بساعتين"
"هل أستطيع أن أسألكِ إلى أين المسير؟"
"إلى منطقة على حدود اسطنبول.."

"أتمنى أن تجدي السلام في رحلتكِ تلك"
ابتسمت وأكملت تناول طعامها. كنت أريد منها أن تكمل وتلك الرغبة بالإكمال كانت تظهر في عينيها، قلت:
"سيدة مِسك.."
"من غير سيدة لو سمحتي"
"كما تريدين. مِسك، هل تريدين إكمال القصة؟"

"هل ترغبين بسماعها؟"
"كثيرًا"
"إذن لنكمل.."
أشعلت سيجارة، أظنها العاشرة لأن مطفأة السجائر كانت مليئة. ثم بدأت تتحدث:
"أنا بطبيعتي أقوم بأشياء تلفت الإنتباه، تجذب الناس إلي، من طريقة تدريسي إلى معاملتي مع الناس إلى لباسي وأكلي وكل شيء حولي، أحب أن أرى الناس تهتم بي، لم أجد اهتمام من أقرب الناس إلي لذلك بحثت عنه مع الغرباء، ووجدته من طلابي وأهلهم وأصحاب مراكز اللغة، ورجال أعمال يطلبون مني العمل كمترجمة والكثير والكثير. لكن معه أشعر بأنني لا شيء.. مجردة من كل شيء، أتصرف على طبيعتي، الإنسانة التي تحب الإنعزال والوحدة، لا تحب الحديث ولا تحب أن تكون مركز الاهتمام.. لذلك متى ما كان موجود حولي اصمت وأراقبه فحسب. بعد ما حصل بغرفة المستشفى أخذني لسيارته وقاد لعشر دقائق ثم أوقف السيارة وسألني لماذا لم أدع والدي يكمل، لم أُعطِه إجابة، قال لي أن والدي طلب منه القدوم باكرًا وطلب منه أن يأتمنه على أغلى ما يملك، فسألته وما هو أغلى ما يملك والدي يا ترى؟؟ فقال لي أنتِ.."
لم تعد مِسك تستطيع السيطرة على دموعها، وأنا بقيت أنظر إليها بصمت.. صار الناس ينظر إلينا، والأسوأ من هذا أن جود كان يمشي باتجاهنا. تركتها تبكي لأنني أعرف أنه عندما يصل جود ستُجبَر على الصمت. ووصل جود، كان ينظر متفاجئًا فهو لم يراها من قبل. لم تنتبه هي لوصوله وخفت أنا أن يقول اسمي، خفت عليها.. قال جود:
"مِسك.."
رفعت رأسها ونظرت إليه متفاجئة، أما هو فحوَّل نظره إلي.. قال:
"مِسك هل كل شيء بخير؟"
قلت:
"أجل جود.."
أردت صفع نفسي لذكر اسمه أمامها. مسحت مِسك دموعها بمنديل ورفعت رأسها تحاول الابتسام وقالت:
"تفضل اجلس.. "
جلس جود مبتسمًا ومذعور من أنه قد جاء بوقتٍ غير مناسب. قالت مِسك:
"اعذرني، حضرتك رجل أعمال وتعرف الضغط والأعباء، ومِسك بمثابة بيت الأسرار، لم أكن لأفوِّت فرصة جلوسي معها دون أن أشاركها بعض الهموم"
نظر إلي جود مبتسم و أحاطني بذراعه ثم قال:
"لم تعرفينا مِسك، من الآنسة؟"
قلت:
"هذه السيدة مِسك، مدرِّسة لغات ونستطيع أن نقول أنها سيدة أعمال أيضًا.. هي صديقة لي"
"تشرفنا آنسة مِسك"
قالت له مِسك:

"أنا لست آنسة، أنا مدام"
"اعذريني.. أتمنى ألا أكون قاطعت حديثكم"
أجابته هي:
"لا أبدًا.."
أشعلت سيجارتها الأخيرة في العلبة وقالت:
"سيد جود، هل خبرتك جيدة في مجال المحاسبة؟"
تفاجأ من معرفتها لاسمه ومن السيجارة أيضا، نظر إليَّ فبادلته بنظرة رجاء ليكمل الحوار معها. أجاب:
"أستطيع أن أقول هذا"
"هل أستطيع أن أسألك سؤال؟"
"بالتأكيد تفضلي.."
"أنا أملك نسبة خمسين بالمئة من أسهم أحد الشركات، وأملك خمسة وثلاثين بالمئة من شركة أخرى، أريد بيعها دفعة واحدة، هل أخسر هكذا؟"
"حسب ذكاء المحاسب والمحامي، بما أنكِ ستبيعين نسبة خمسة وسبعين بالمئة فيحق لكِ رفع الأسعار بالعلالي يا مدام مِسك"
"لن استخدم محامي ولا محاسب، سأفعلها بنفسي.. هل أستطيع أن أتصرف بحصة شخص غير موجود؟"
"هل لديكِ وكالة؟"
"أجل"
"إذن تستطيعين"
نظرت مِسك إليَّ للحظات ثم أطفأت سيجارتها وقالت:
"أشكرك كثيرًا سيد جود، أعتذر على إزعاجك باسئلتي بهذا الوقت.. وأنتِ مِسك أشكرك على استماعكِ واتمنى أن نلتقي مجددًا.."
قلت:
"هل ستذهبين؟"
"أجل، يجب أن ألحق الطائرة"
"انتظري لحظة"
كتبت لها رقمي واعطيتها الورقة وقلت:
"عندما تذهبين إلى اسطنبول اتصلي بي، سوف أنتظر إتصالك"
"شكرًا لكِ مجددًا.. أشكرك سيد.. جود.. السلام عليكم"
جرَّت مِسك حقيبة السفر الخاصة بها واتجهت للخارج. أما أنا فنظرت إلى جود وقلت له:
"لقد كان صعبًا عليها أن تنطق باسمه حتى وهي تناديك أنت.. هي لم تستطع أن تجلس حتى، طائرتها تبقى لها أكثر من ستة ساعات جود"
"ماذا تقولين حبيبتي؟"
"جود.."

"ماذا هناك؟"
"برأيك ما هو الشيء الذي قد يجعل شخص يبتعد عن شخص هو سبب قدرته على التنفس؟ هل من وجود لشيء كهذا؟"
"بالتأكيد ستجدين أسباب كثيرة، وأوضحها هو القدر حبيبتي"
"القدر؟"
"أجل"
"لماذا ليست الصُّدف؟"
"الصُّدف ليست لنا مِسك"
"نحن نؤمن بالقدر"
"بالضبط حبيبتي"
"هل تستطيع معانقتي؟"
ضمني جود وسألني عن قصة مِسك فقلت له:
"مِسك أضاعت مصدر التنفس الخاص بها، أضاعت جود الخاص بها"
"جود؟"
"أجل، اسمه جود"
ابتسم جود وقال:
"منذ متى تعرفينها؟"
"هل عليَّ أن أقول كل شيء جود؟"
"لا حبيبتي"
وأنهيت تلك الليلة هناك، صعدنا لننام، لكنني لم أستطع، بقيت أفكر بما يمكن أن يكون قد حدث معها، وماذا ستكون بقية قصتها، وهل يا ترى سوف تستطيع إيجاد جود الخاص بها في هذه الفترة قبل أن يحين لقائهما الثالث؟

عاشق ومعشوق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن