كم مر على هذا الانتظار

130 15 21
                                    

كم مر على هذا الانتظار
أشعر أنني نائمة منذ قرن مضى؛ كل ما أذكره أنني استيقظت ذاك اليوم فجرًا على الرغم أن موعد اجراء العملية كان في الظهيرة ؛ تسحبت من فراشي وذهبت للمستشفى قبل أن يستيقظ جيهوب وجونغ يو ؛ فأنا أكره الوداع ولا أجيد القاء الكلمات المنمقة في مثل هذه المناسبات؛ وصلت إلى المستشفى وخضعت للكشف الأخير قبل اجراء العملية ؛ نمت في غرفتي بالمستشفى في انتظار الخطوة التالية ؛ وأثناء ذلك جائني اشعار على هاتفي ؛ يذكرني الفيس بوك بعيد ميلادي ؛ في العادة أنا لا أحتفل بيوم مولدي لأنه يحمل ذكرى مؤلمة لعائلتي؛ فقبل ثمانية عشر عامًا مليئة بالاندفاع والتهور كانت صرخة طفلة جديدة تهز أركان منزلنا تلك الطفلة كانت أنا ؛ وبعد دقائق من مولدي خطف الموت عمي شابًا فانقلبت صرخات الطفلة التي تستقبل الحياة لصرخات حزن وفزع لرحيل عمي وصار يوم ميلادي شؤمًا على الجميع ؛ وصار هذا العام عام حزن ؛ كرهتني جدتي كثيرًا ولم تحملني أو تضمني يومًا إلى صدرها كما اعتادت ان تفعل مع باقي اخوتي ؛ عانيت كثيرًا قسوة جدتي وحاولت مرارًا كطفلة أن أتقرب إليها لكنها كانت تصدني وتنهرني وتبعدني عنها؛ ولأنني كنت طفلة فلم أستطع استيعاب كل هذا الكره الذي تضمره لي؛ ولم أكف يومًا عن محاولة التقرب إليها واستمالة قلبها؛ وحين كبرت استوعبت حزنها وعذرتها لكنني بقيت دائمًا متعطشة إلى تلك الضمة التي كان يحظى بها اخوتي أمامي ولم أحظى بها يومًا حتى ماتت جدتي؛ حتى أنني كلما تمنيت أمنية بيوم ميلادي كانت تلك الأمنية تتكرر على مدار سنوات عمري وهي أن تمنحني جدتي غفرانها وتفتح لي قلبها حين القاها في العالم الآخر وتضمني ضمة واحدة لصدرها ؛ أريد أن تصدق أن موت ابنها لم يكن خطئي.
جلست بغرفتي تراودني الأفكار وتهاجمني المخاوف ؛ ارتجفت حين خطر لي هاجس الموت ؛ وللمرة الأولى اكتشفت أنني أخاف الموت وأنا التي كنت إذا يئست من شيء بالحياة أو غضبت تخطر على بالي أمنية الموت فورًا ؛ الآن أنا خائفة من فكرة الموت التي قد تأخذني غير جاهزة إلى الله .
سمعت طرقات خفيفة على الباب؛ بعد ثانية واحدة دخل "جيهوب" وهو يحمل كعكة عيد ميلاد ومن خلفه "جونغ يو"و "بي" وهم يرددون happy birthday to you وللمرة الأولى تواجدنا نحن الثلاثة في مكان واحد معًا؛ احببت المفاجأة وفرحت بها للغاية فقد كانت مرتي الأولى التي احتفل فيها بيوم مولدي ؛ والجميل أنني احتفل بها بصحبة أكثر الأشخاص قربًا لقلبي ؛ قضيت معهم ساعة بعمري كله ؛ ضحكنا من قلوبنا غنينا ورقصنا ؛ اطفأت شمعة عيد ميلادي وأنا في فم الموت ؛ أن تغني وترقص للحياة وأنت بفم الموت يالها من فكرة مضحكة مبكية ؛ لكنني حرصت أن أبدو قوية أمامهم للنهاية .
وجاءت اللحظة الحاسمة لحظة دخولي غرفة العمليات؛ ودعني الثلاثة بابتسامة مرتجفة بينما اقترب جونغ يو وهمس بأذني "سأكون بانتظارك " ؛ وفي غرفة العلمليات وإلى جوار "بي" كنت ارتجف من الخوف والقلق فمد يده وامسك بيدي قائلًا " سنفعلها " ؛ وكما توقعت ووفقًا لتاريخي المرضي وأثناء الجراحة حدث مالم يتوقعه الأطباء لأنني أخفيته عنهم ؛ نجحت عملية النقل واستقرت حالة "بي " بينما ساءت حالتي فجأة وحاول الأطباء بأقصى استطاعتهم انقاذي ؛ كانت تجربة مرعبة استغرقت 46 ثانية شعرت فجأة أنني خارج جسدي أقف بالقرب من جسدي الممدد على طاولة العمليات ؛ اشباح بيضاء تتراكض حولي بفزع ؛ مالذي يحدث لي ؟ الأطباء منغمسين في عملهم كانت اصواتهم تصلني واضحة ؛ الممرضة تصرخ:
- النبض 160 ضغط الدم 80/40 الحرارة ارتفعت ل 40 الطبيب المساعد :
- ستفشل الاعضاء الداخلية ؛ هل لديها حساسية
طبيب التخدير :
- لا توجد حساسية معروفة في ملف الحالة .
الجراح :
- اننا نفقدها لقد توقف القلب .
توقف قلبي لمدة 46 ثانية خضت خلالها تجربة الموت المؤقت ؛ كنت أقف بجوار جسدي؛ أرى جميع الاتجاهات وأنا مكاني ؛ رأيت "بي " ممددًا إلى جواري على طاولة العمليات ؛ اقتربت منه لأطمئن عليه ؛ وضعت يدي على كتفه فاخترقت يدي جسده كما يُخترق الماء ؛ مالذي يحدث معه هل مات ! لقد بدا الأمر مرعبًا ؛ فكرت في جونغ يو وجيهوب وفورًا وجدت نفسي في غرفة الانتظار ؛ أدركت انني اخترقت الجدار كشبح؛ كان جونغ يو جالسًا يهز قدمه اليمنى كعادته حين يقلق ؛ وكان جيهوب يمشي ذهابا وإيابًا ؛ حاولت أن أظهر نفسي لهم بأن أتحرك أمامهم شمالًا ويمينًا وألوح لهم بيدي ؛ فلم أتلقى أي رد فعل منهم ؛ حاولت وضع يدي على كتف جونغ يو فاخترقت يدي جسده كما حدث مع "بي" هل مات جونغ يو أيضاً ! تحركت باتجاه جيهوب ولمست يده فاخترقت يدي يده ؛ هل مات الجميع !
هل مت أنا ؟ ارجوك أيها الطبيب عد أنا لم أمت ؛ أنا على قيد الحياة ؛ أرجوك حاول من جديد فأنا مازلت على قيد الحياة ؛ وفجأة وجدت نفسي في هاوية صمت مظلمة لا أصوات ؛ لا أضواء ؛ كل شيء تلاشى ؛ وأصبحت في عزلة كاملة؛ وبعد لحظات شعرت بالراحة والسلام ؛ لكنني سرعان ماتذكرت ماكتبه العالم رايموند ماودي في كتابه الحياة بعد الحياة حيث كتب أن بعض الأشخاص يجدون الراحة في هذا المكان فيستسلمون ويموتون ؛ حينها فكرت أنني أموت فأصيبت بالذعر الشديد وانتفض جسدي فأنا لا اريد الموت الآن مازلت صغيرة وهناك أشياء كثيرة أود أن أعيشيها ؛ بعدها رأيت ضوء صغير كخرم إبرة ينبعث من بعيد ؛ قذفت نفسي بأقصى سرعة نحو هذا الضوء لأجد نفسي في مكان آخر ؛ زاد الضوء فتحت عيني لأجد نفسي في بيتنا بمصر ؛ رأيت صالة البيت تزدحم بالنساء؛ أكثر من مائة امرأة كلهن تشبهن أمي ؛ عرفت أمي من بينهن جميعًا ؛ فللأم عطر يميزها عن غيرها يتشبث بذاكرة القلب التي تحمي بقائه ؛ كانت تبكي وتصلي لله أن ينقذني ؛ أردت بشدة أن أجفف دمعها فلم أستطع رغم قربي منها؛ تسللت يدي إلى جدائل شعرها وضممته إليّ وأنا أستنشقه وقلت سامحيني يا أمي ؛ بينما كانت اصابعها الدافئة تتسلل الى شاشة هاتفها و تمسح على وجهي الذي ثبتته كصورة خلفية لهاتفها ؛ ولأن تجربة الاقتراب من الموت تجربة روحية تجعل من يتعرض لها يعيش بعدًا لا وجود للوقت والمسافات فيه ؛ فقد استطعت أن أرى بوضوح قلب أمي واستطعت أن أشعر مقدار الألم الذي سببته لها؛ اصبحت أرى بوضوح شريط حياتي معها ؛ كم كنت ابنة سيئة وعنيدة وكم كانت أم صبورة ومُحبة ؛ الأم هي صوت الحياة الباسم ؛ وحدها الأم لا غيرها من دون البشر تستطيع أن تصورنا من الداخل ؛ تمسح بأصابعها الدافئة وجوهنا الباردة الملقاة خلف همومنا بحثًا عن وجه جديد ؛ الوحيدة القادرة على الوصول إلى الأحاديث العالقة بيننا وبين أنفسنا وتترجم صمت حناجرنا وتسمع من بعيد اصواتنا التي لم تلامس بعد حنجرة البوح ؛ الوحيدة التي تجيد قراءة الحزن في أعيننا وتتحول إلى اسفنجة تزيل عنا الوجع وتمتص الحزن ؛ تغفر الهفوات وتقيم العثرات ؛ تتحول إلى كف تصفق لكل انتصارتنا مهما بدت تافهة ؛ تفرح باحساس يفوق احساسنا وتقلق بالنيابة عنا .
وبينما كنت أنظر إلى دموع أمي وتوسلاتها إلى الله سمعت صوتًا يقول "هل تريدين البقاء أم العودة ؟ " كانت لديّ رغبة قوية في البقاء فقد كنت أشعر بالراحة والسلام ؛ وقبل أن أنطق بالاجابة رأيت أنني عدت بجوار جسدي ومن خلال الجدار كنت أرى دموع جونغ يو التي بدأت تنساب على وجنتيه وجيهوب يحتضنه ويحاول تهدأته ؛ بعدما اخبره طبيب التخدير الذي خرج أنني مت ؛كان جونغ يو يبكي بحرقة كطفل ؛ تنهدت وقلت "ما أهدأ الموت لولا دموعك يا جونغ يو لولا يداك اللتان تدقان صدر الطبيب الآن مطالبة اياه أن يعيديني من حيث مت "
وبعد ان استسلمت للموت أعادني صوت بكاء جونغ يو بالخارج لكن انقطعت الاصوات والأضواء حولي من جديد وعاد الصمت والظلام ؛ لا استطيع الحركة ؛ جسدي ميت وذهني واع ؛ أين الجميع هل مت أخيرًا وفجأة سمعت صوت الطبيب وهو يأمر مساعده
- استمر بالمساج لا تتوقف المزيد من الادرينالين فورًا
- انها لا تتجاوب مع انعاش القلب ولا تستجيب للمساج لماذا لا نصعقها ؟
- لانستطيع صعقها لا يوجد نشاط كهربائي في القلب لايوجد أبدًا اننا نفقد المريضة .
كنت اقف الى جوار جسدي واستمع إلى حوارهم وصراعهم حول الاستسلام او الاستمرار بالمحاولة وفجأة ظهر النبص فصرخت الممرضة يوجد نبض يوجد نبض .
وأخيرًا فعلتها ولم استسلم للموت عاد النبض وتم وضعي تحت رعاية مشددة استقرت أموري ورغم ذلك مازلت فاقدة للوعي أشعر بالحياة من حولي واستمع الى الاصوات لكن جسدي لاينهض كنت بحالة تشبه الجاثوم اريد ان استيقظ ولا يساعدني جسدي ؛ ظل الوضع هكذا لمدة عام ؛ ارقد في غرفة عناية مشددة محاطة بالأجهزة والانابيب واتغذى على المحاليل الطبية؛ خلال هذا العام حدثت أشياء كثيرة ؛ في البداية داوم جيهوب وبي على زيارتي كل يوم بلا انقطاع وبعد ثلاثة أشهر سافر جيهوب في جولة موسيقية حول العالم لكنه ظل يتصل بالمستشفى للاطمئنان على حالتي وسافر بي الى المملكة المتحدة في رحلة عمل فقد تعافى وامتثل للشفاء وكان عليه أن يساعد والده ورغم ذلك تحمل نفقات علاجي واقامتي بالمستشفى وداوم على الاتصال يوميًا للاطمئنان عليّ ؛ وحده جونغ يو ظل بجواري ولم يفارق المستشفى لمدة عام باستثناء ذلك السبوع الذي خضع فيه لعملية وعاد بصره ليرى الحياة من جديد ويراني ؛ لكن يراني وانا ممددة أمامه على سرسر بمستشفى لا استطيع الحركة او الكلام ؛ يذهب إلى عمله لمدة ساعة واحدة ليتابعه ثم يعود مسرعًا يقضي الليل والنهار إلى جواري يذهب الى ببته للاستحمام وتبديل ملابسه ثم يعود مسرعًا وكأنه أم تركت طفلتها الوحيدة بمفردها ؛ في غيبوبتي ومنذ اليوم الذي قال له الطبيب حدثها فهي تسمعك ولكنهاةلا تستطيع الرد كان يتشبث بيدي كالطفل ويتحدث معي بالساعات يقص عليّ كيف يسير يومه وأخبار عمله ووالدته ؛ ويخبرني كم اشتاق إليّ ؛ حتى ذلك اليوم الذي جلس إلى جواري قابضًا على كفي فضغطت على يديه ضغطة رقيقة؛ رفع رأسه مفزوعًا غير مصدق ؛ فتحت عيني ببطئ ابتسمت له وأنا أنظر إلى وجهه وكم اشتقت إلى وجهه ؛ اقترب من أذني وهمس :
- صباح الخير أيتها الكسولة لقد نمت كثيرًا .
تسللت اصابعه الرقيقة نحو وجهي قرصني بحنان ثم قال:
-كنت أظن أنك جميلة ولكن بعد أن عاد نظري ورأيت وجهك.
عبست واشحت بوجهي عنه فأمال بيديه وجهي نحوه مرة أخرى وأكمل :
- لكنك جميلة جدًا
اتسعت ابتسامتي ورقص قلبي داخل صدري ؛ كنت سعيدة أن جونغ يو وأخيرًا أصبح يرى نور الحياة وسعيدة جدًا لأنني فتحت عيني بعد غيبوبتي ووجدته إلى جواري ؛ والحق أنني ماتمنيت أن أجد شخصًا غيره إلى جواري .

الحب أن يبدو الأمر معقدًا إلى هذا الحد كأن أرى في عينيك جنة ثم أتفاداها واهرب منها إلى جحيم يحرقني فتختار أنت بالمقابل- ومع استحالة أن أشعر بك - أن تظل إلى جواري تكافح على أمل أن نلتقي في نهاية الطريق ؛ تصدق قلبك وتتبعه في لعبة تشبه لعبة الاستغماية حيث يختار قلبي وانا بكل هذا النضج الاختباء منك لتكتشف مكاني قبل الآخرين ؛ جونغ يو شكرًا لأنك وجدتني قبل الآخرين ؛ شكرًا لأنك أعدتني إلى جنتك .

-

توأم روحي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن