جالِسة على فِراش المُستشفى مُتأهِّبة للخروج، بعد أن انفجرَت باكيَة، مُشيحة بوجهها عن والدتها وعن رغَد، مُنهارة، تصِيح بصوتٍ أرهقهُ السكوت ، إلى أن غادرو.. يُطاردها طيف الحادِث، وكُل إدّعاءاتهم الكاذِبة ، الآن؛ و عُمر وحدهُ أمامها، تُراقب روَاحهُ ومجيئه في الغرفة ، مُنهمِكاً يُلملم أغراضها بِحمَاسة، مليئةٌ خطواتهُ بالحيَاة، بعد موتٍ طالْ.. خلفهُ المُمرضة تُحقنها بجرعة المُهدّئ الأخيرة.. تنطِق بصوتها المُتعَب مُستنِدة إلى يد السرير : عُمر
يلتفِت إليها مُهتمًّا : يا رُوح عُمر
تُمعِن النظر في لمعة عينيهِ السعيدة ، الآن فقط، تتذكَّر كم تعذَّب لأجلها، كم عانَى في سبيلها ولم يجِد سوى خيباتٍ تُكسٍّر فيه بنَات الأمَل.. تنطِق خجِلة : أنا آسفَة
يُفلت ما بَين يديه ، ويأتِيها بنظراتٍ حنونة تسبِق كفّيه، يجلِس على أمشاطِه، يُمسك بكفّيه الحنونَين كفّيها ، يُعلِّق نظراتهُ بِها ، عينيها الغائبين لكثرة ما بكَت ، تفاصيلُ خدّيها، الشّامة خلف أُذنها، حلَق والِدها، أنفها، رسمة شفتيْها ، شعرها الذي لا يهَاب التغيير؛ قصيراً يُداعِب وجهها مثل خيوط الشَمس، عظْمة كتفِها البارِزة، ملمَس كفّيها بين كفّيْه، يتنشَّق رائحة جسدها المحفوظة لديه في ذاكِرة القلب، ويزفُر مأخوذاً بتفاصيلها التي تأتِي دائمًا على مقاس دهشتِهِ : آسفة ؟ إنتي شايفة إنِّي محتاج مِنِّك أسَف يا وسَن ؟
وسن : أيوَة
يُقاطعها نافيًا : لأ.. إنتي ما نِسيتيني بإرادتِك ، الخمسة سنين دي ما كانَت غلطتِك أبدًا يا وسن ، أنا ما مُحتاج مِنِّك أسف ؛ يُفلت كفّيها ، يُحاوِط خدّيها ويُكمِل : أنا مُحتاجِك إنتي، مُحتاج أضمِّد بيك جروح خمسة سنين كانوا قاسيين جداً من غيرِك
تُقبِّل راحة كفِّه بِعُمق، تكبَح جماح دموعها، وتبتسِم
ينهَض عنها : يلّا ، أنا شِبه خلّصتَ
يُغلِق الحقيبة ويلتفِت إليها : حنغشى بيت أُمِّك أوَّل عشان..
تُقاطعهُ صارِمة : لا
عُمر : وسَن
وسن : أنا ماحخُش البيت دا تاني
عمر : أسمعيني طيب في الأول ، إحنا ما ماشين نتضايِف ولا نقعد هناك، حناخد الحاجات البتخصّك بس عشان تقضِّي بيهم اليوم اللي باقي لينا في البلد دي، وأساساً كل حاجاتِك هناك زي ماهيّ في الدولاب، بتتغسِل كل أسبوع وتتكوِي
وسن : أنا ماقادرة أعاين في وشّها يا عُمر..
عُمر : أنا ماحضغَط عليك، إنتي لسّه طالعة من صدمة ما يعلم بيها غير ربّنا ، لكن كل البقدر أقولو ليك ماتقفّلي كل الأبواب ياوسن، دايمًا خلّي باب موارِب، لو هي قِسَت عليك إنتي ماتقسي عليها يا وسَن، مشت ولا جات في النهاية دي أُمِّك ، وإنتي عارفة ياروحي يعني شنو تكوني أُمّ
تنظُر إليه بأعيُن دامِعة، وتفاصيل الحادِث تتوارَد إلى ذهنها حادّة ، جارِحة، تذكُر فرحتها بتِلك الطفلة التي تسبَح في ضِيق رِحمها، خطاباتها لها في كُل ليلة، مُداعبتها لها في الصبَاح، آلامها ، سهرها .. ولحظة خرُوجها للحيَاة التي أخذتهَا للأبد، ومنحَتهَا أمومة لم تكتمِل ، تُشيح بنظرها عنهُ باكيَة، يأتيها، يجلِس بجوارها ويحتضنها إليه، يعلَم سريرتها التي تُبكيها، ملهوفًا يتمنّى لو يرمِي لها بهذه الحقيقة ماسِحًا بها دمعها، لكنّه يتريَّث..
تشهَق، يغيب نبضهُ ويعود، تستغفِر، يُقبِّل رأسها ، تمسَح دَمعها وتنهَض : حخُش الحمام
عُمر : طيّب ، أنا حخش للدكتور لأنو طلب يقابلني قبل مانطلَع وأرجَع آخدِك ونتوكَّل، تمام؟
تبتسِم بوجهها المُحتقِن : تمام
يُقبِّل جبينها بِحُب : يلّا