#اِطلي_بِلَوْنِكَ_رُوحي
"على الرُّكاب المُسافرين على متن الرحلة رقم *** على متن الخطوط *** المتوجّهة إلى مطار الخرطوم الدُولي التوجّه للبوابة رقم ** ."
جالسة على أحد كراسي الإنتظار، سارِحة في ماضيها المُغيَّب وحاضرِها المجهُول، جفّ الدمعُ على خدِّها مُنذ ليلة البارِحة ، تتذكَّر ما حدَث ، ما هزَّ ثِقتها وفتَق فيها جروحاً قديمة..
•••
البارِحة - أمام قصر عُمر الرّشيد :
تتأمَّل وسَن روْنق المكان، يارا الواقِفة في مُنتصف الدرَج، بِفُستانها الأسوَد ، رقيق يصِل إلى أسفل رُكبتها وينتهي حدّهُ، شعرها الأسوَد الطويل يستريح على كتفٍ واحِد، بشرتها البيضاء الصافيَة، قامتها الطويلة وتفاصيل جسدها المُحدّدة مِثل لوحة، تنظُر إلى طاوِلة الطعام الفاخِرة، الشموع تملأ المدخَل، والورد منثُور هُنا وهُناك، وهذهِ الطفلة اليتيمَة ، تتعلَّق بِكفّ عُمَر وتُنادي "بابا" تلتفِت إلى عُمر بعينين غارقتين في الحيرة، ترجُو منهُ كلمة تبريرٍ واحِدة!
واقفٌ هو بجانبها، يُحملِق في هذهِ الكارثة، تجمَّدت كلماته فوق شفاهه، هرَب قلبه من صدرِه، وخارَت قُواه..
تلتِفت بيان إلى وسَن الغارقة في دهشتها، تُمسِك بكفّها، فتتنبّه وسن إليها، تنظُر إليها ثم إلى عُمر : عُمر ، دي بنتَك؟
عُمر مُبرّراً : إستني يا وسن، أنا حفهٍّمك بس ما..
تصيح : جاوبني دي بنتَك !!
يُطأطئ برأسه : أيوة
تُفلِت كفّها، وتُهرول هارِبة
يلحق بها ، يُثبّتها
تصرُخ : كفاية ! كفاية كذب وتمثيل ياخ وخاف ربَّك! إنت عندك بنتك وبيتك والحلوة المنتظراك جوه دي، عايز مني أنا شنو !!
عُمر : والله يا وسن إنتي فاهمة غلط، إستني بس خليني أشرح ليك !
وسن : قصدك تألِّف لي؟ لأ معليش، ماحدّيك فُرصة
المره دي، وكفاية يا عُمر
عُمر مُتوسٍّلاً : الله يرضى عليك ياوسن ما تمشي بالحالة دي ! أنا ما صدّقتَ رضيتي بوجودي فحياتك، عشان خاطري ما تخرّبي كل حاجة بسبب مشهد إنتي مافاهمة في وراهو شنو!
وسن : إنت غبي؟؟ ولا أهبل؟ ولا الإتنين؟ عشان أنا مابقيت فاهماك!! بقولّيك أرجع لمرتك وبتَّك وسيبني! أنا ماحلعب الدور الإنت راسمو لي في خيالَك دا أبداً يا عُمر، ولو كان في بيننا أي شي حقيقي زمان ف بنصحَك تنساه، لأنو ماحيتعاد، واِختَشي.. أخجَل شوية
تركُض وصولاً إلى الشارع، تُوقِف سيّارة الأُجرة ودمعها ينهمر دافئًا على خدّيها، وذلك الشعور الصغير الذي بدأ ينمو بِقلبها تجاهه، إجتثّهُ هذا المشهَد من جذُوره ..•••
الآن، يصدَح النداء الأخير لرِحلتها في أرجاء المطَار، تُفيق من شرودها ودمعةٌ دافئة هربَت إلى خدّها، تمسحها وتنهَض مُهرولة نحوَ بوّابة الصعود، لِتُغادر أمسها ذاك للأبَد.
●●●
ماليزيَا - بِقصر عُمر الرشيد :
أشرَق الصُبح على جروحهِ المكشوفَة، فاتّضحَت أكثَر، لم ينَم مُنذ غادرَت وسن عتبة منزلهِ مخذولة، تارِكة آخر أمالِها بهِ منثورة بين قطع الورد وذهبَت.. مُتوسِّداً فِراشهُ يُداري بهِ خيباتِه، يُطرَق الباب، فيصيح : مافي زول يخُش عليّ ياجماعة كم مرّه حكرِّر الكلام دا ؟
يُفتَح الباب
يصيح : شنو قلّة الأدب دي !
يمتثِل رفيقهُ واقفًا أمامهُ : والله مافي قلة أدب هنا غير البتعمل فيها إنتَ دا
يتنهَّد : سامي ، جابَك شنو انت كمان
يتقدَّم إليه : جابني الكلام الفارغ القالتو لي يارا أمس دا !
عُمر : هي لِحقَت تحكي ليك كمان
سامي : يا إبني إنت طردت البت من بيتَك وجرّستها قدام حوّاء الشغاله، وعايزها ما تحكي؟
عُمر : هي اللي جابتو لنفسها..
سامي : ودّ الناس، إنت متأكد إنو ماعندك تخلُّف عقلي بالعمايل السودة البتعمل فيها دي ؟ وبعدين كيف أصلا تجيب معاك وسن البيت انتَ جنّيت؟؟
عُمر : ماجبتها ياسامي ماجبتها، هي اللي أصرَّت تجي معاي، كان عندها شكوك فيني وكنت عايز أطمّنها شوية
سامي : قُمت طبزتها
عُمر : أهو اللي حصل يا سامي وأطلع من راسي الساعة دي عشان أنا ماناقصَك
سامي : حتعمل شنو طيب؟
عُمر : حضطر أرجع لدكتورة لارين، لو ينفع أعترف ليها بالحقيقة وأخلَص من الموّال البايخ دا حعمل كدا
سامي : أنا شايف إنو تنسحِب من حياتها أفضل يا عُمر
عُمر مُستنكِراً : نعم؟
سامي : ياعُمر القصة دي نهايتها واضحة! إنت ليه بتكابِر !
عُمر : ليه بكابِر؟ ، يعتدل جالسًا : أورّيك ليه بكابِر؟ عشان الطفلة العايشة دور اليتيمة وأمها لسّه حيّة دي ، بكابِر عشان السنتين العشتهم مع وسن غيّرو حياتي وعُمري ما أبدِّلها بوحدة لحدي ما أموت، بكابر لأنو الخمسة سنين البيننا دي ماغيّرت فيني أي شي إلا زادتني حُب وإصرار عليها ، عرفت أنا ليه بكابر؟ أنا عارف إنّك ما شايفها إلا بالصورة الحالية، بنت غريبة رجعت لحياتي وخرّبت كل الأنا حاولت ألملمو في الخمسة سنين الفاتو، بس دي نظرتَك إنت ياسامي، لكن أنا لما بعاين لوسَن بشوف عُمري كلو، وحياتي الفاتت والجايّة، بشوف فيها ليلي السهْرَتو معاي وشُغلي الشالتو على ظهرها أكتر مني، أنا ما نكَّار جميل عشان أنسى ليها كيف لوّنت حياتي، وخلّتني أتمسَّك بالحياة أكتر وأعيشها بِحُب ومعنى، مهما إتغرّبت عني وبعدَت يا سامي، أنا ما بنسى إنها في يوم كانت أقرب من ضُلّي لي ..
يتنهَّد ، يُربِّت على كتف صديقهِ وينهَض ، مُغادراً بصمت، فلا حديثٌ يُجاري ماقالهُ هذا أو يُضاهيه..
تاركًا عُمر غارقاً في حيرتهِ، تائهاً في ذكرياته