[ الجزء الرابع] البارت التاسع (٩)

150 12 2
                                    

ثلاثة أيام مضت على اجتماع العائلة. كنت في شقة غسان» أشعر
بالبرد رغم اعتدال الجو بالنسبة إليهء أحكم قبضتيّ على كوب قهوة
مسندا قدميّ بجوربيهما السميكين على مدفأة كهربائية أشاهد إحدى
قنوات الأفلام الأجنبيةء في حين كان غسان يقراً كتابا. ر جرس هاتفه
النقال. أسند الكتاب مقلوبا على ركبتيه. نظر إلى شاشة الهاتف قائلا:

- اتصال من أهلك..

بقفزة واحدة وجدتني على الأريكة حيث يجلس. سألت بلهفة:

- أمي؟ أم ماما آيدا؟

لم يُجب. وضع السماعة على أذنه: "وعليكم السلام". استمرت
المكالمة لمدة جاوزت الدقائق العشر. لم يّه خلالها غسان بحرف سوى
غمغمة يهر خلالها رأسه: "ممم.. مممم.. مم". انتهت المكالمة.

"اسمع یا عيسى.."» قال باهتمام. واصل: "سوف تذهب لتعيش
في منزل جدّتك". ما إن قال تلك الكلمات حتى وجدتني أقفز عاليا في
منتصف غرفة الجلوس ملوحا بقبضتيّ: ‎."!Yes Yes Yes"‏ شعرت آن
الأرض تهتز أسفل قدميّ.

- عیسی!

قال غسان منفعلا. أردف:

- كفّ عن القفز بهذه الطريقة.. نحن في الدور الرابع.. هناك
ناس يعيشون في الأسفل!

عدت إلى الأريكة حيث يجلس. نظرت إلى عينيه مباشرة:

- في الأسفل؟!سألته» ثم هززت رأسي نافيا أقول:

- لا أحد سواناء أنت وآناء يعيش في الأسفل.. لا أحد..

ضحك غسان.. اهتز جسده من فرط الضحك. قال:

- سأفتقدك يا مجنون..

ليست الجابرية بعيدة عن قرطبة حيث منزل جدتي. ولكن» باغتني
شعور بالأسف تجاه غسان» رغم انه عاش طيلة حياته وحيدا» فقد شعرت
وكأنني» برحيلي إلی بيت جدتي» قد تخلیت عنه. تذكرت أبي ووليدًا
حینما کانا معه» وحکایات أمي عن الأصدقاء الثلائة. عالمهم الخاص..
أحاديثهم.. غناءهم.. سفرهم وخروجهم إلى البحر. أي وحدة يعيشها
هذا الرجل في شقة صغيرة خانقة» في مبنى يغص بخليط من الوافدين
العرب والأجانب.. مصريون.. سوريون.. هنود وباکستانيون.

- غسان!

توقف عن الضحك ينظر إليّ. سألته:

- لِم لم تتزوج إلى الآن؟

عاد وجه غسان كما هو وجه غسان الذي أعرف. أزاح الكتاب عن
ركبتيه واضعا إياه على الأريكة إلى جانبه. كاد أن يقول شيئا ولكنه آثر
الصمت. أمسكت بعلبة سجائره. استللت سيجارة. وضعتها فى فمى.
أشعلتها ثم قدمتها إليه. قلت: ا

- هيا.. انفث كلماتك مع دخانها..

سحب نفسا عميقا. توهجت الجمرة تتساقط منها ذرات الرماد.
قال وهو ينفث الدخان:
- لا أريد أن أنجب أبناء يلعنونني بعد موتي یا عیسى..
أسند ظهره إلى الأريكة شابكا أصابعه خلف رأسه. والسيجارة
تتدلی من بین شفتيه. آتم:
- ما الذي يمكنني توريثه لأبنائي سوى صفة ظلت لصيقة بي طيلة
حياتي..
صمت قليلا. نظر إِليّ ثم أردف:
- البدون» يا عيسى» جينة مشوؤهة. تتعطل بعض الجينات ولا
تصل إلى الأبناء أو تتجاوزهم لتظهر في الأجيال اللاحقة من ذريتهم»
إلا هذه الجينة الخبيشةء فإنها لا تخطى أبدا. تنتقل من جيل إلى آخر
محطمة آمال حاملیها.
سحق غسان عقب سيجارته في منفضة السجائر» ثم انسحب إلى
غرفته.
‎***
‏في ساعة متأخرة من الليل» بينما كنت في غرفة الجلوس» خرج
غسان من غرفته بوجه متورم وعینین نصف مغمضتين. مدَ إِليَ هاتفه
النقال قائلا: "إتصال مِن.."» فتح فمه على اتساعه يتثائب» آتم: "..أختك
خولة". تناولت الهاتف. أدار لي ظهره يمشي كرجل آليّ نحو غرفته.
- آلو..
- أهلا عيسى.. أتمنى ألا أكون قد أيقظتك من نومك..

- لا لا.. لم أنم بعد.

أخبرتني آنهم قاموا بتجهيز غرفة لي بجميع لوازمها في ملحق
المنزل. تسارعت دقات قلبي فرحا. قالت: "ستجد کل ما تحتاجه في
الغرفة"» ثم أخذت تعدد لي ما تتضمنه غرفتي. قاطعتها: "هذا كثير..
كثير جدا يا خولة!". صمتت. نظرت إلى شاشة الهاتف أتأكد من استمرار
المكالمة. قلت:

- ألو!.. خولة!

- نعم.. أنا على الخط..

- شکرا لك علی کل ما تفعلینه من آجلي..

- ولکن..

عادت لصمتها.. تلكأت فليلا ثم قالت:

- هل أنت متأكد أنك سعید؟

- جدا.. أکثر مما كنت أحلم به.

- أليس في بقائك في ملحق المنزل أي..

أخذت تغمغم كأنها تبحث عن مفردة مناسبة:

- ممم.. انظر.. لقد حاولت بقدر ما أستطيع أن يكون بقاؤك معنا
بشكل آفضل.. ولكن.. لننتظر.. لربما تغْيّر ماما غنيمة رآيها لتعيش معنا
داخل البيت.

فهمت أن قبول جدتي لي كان قبولا منقوصا. ملحق البيت ليس
البيت ذاته. هو مكان مفصول في فناء البيت الداخلي» يسكنه الطباخ
والسائق. لا يسكن في البيت سوى أصحاب البيت» والخادمات في
الطابق الأخير. تقبلت الأمر برحابة صدر» ليس لشيء سوى أن غرفتي
في ملحق المنزل كانت» ذات يوم الديوانية التي يجتمع بها آبي
بأصدقاثه.

- آلو.. عيسى.. هل أنت على الخط؟

- نعم.. نعم اني أسمعك..

- ثم ان هناك أمورًا آحرى أود أن تعرفها قبل مجيئك..

***

قبل انتقالي إلى بيت جدتي كان من الضروري أن أعرف أمورا

عدة. يجب ألا أتحدث إلى الخدم» خصوصا الطباخ والسائق» بحقيقة

أمري» لأن لبيت جذتي جيرانًا كثراء وفي كل بيت هناك طباخ أو سائقء
أو ربما الإثنان معا. الخدم» بشكل عام» لا يؤتمنون على أسرار البيوت»
يتناقلون الأخبار فيما بينهم» ما يجعل أسرار البيت عرضة للانكشاف في
البيوت المجاورة. كلام كثير قالته خولة في تلك المكالمة بهذا الشآنء
خرجتٌ منه بفكرة واحدة هي انني سأعيش في بيت جدتي» و ملحق
بيتها» بصفتي سرّا لا يجب آن يُكشف للآخرين.

"إذا ما سألك أحد الجيران أو خدمهم.. نت الطباخ الجديد.. هذا
مؤقتا.. لحين أن نجد مخرجا لهذه المشكلة".

***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن