[الجزء الرابع] البارت السابع عشر (17)

118 12 0
                                    

في أحد أيام رمضان» قبل منتصفه بقليل» اجتمعت العائلة في بيت
جدّتي لتداول وجبة رمضانية خاصة» تأتي بعد وجبة الإفطار وقبل وجبة
السحور. يطلقون عليها اسما غريباا(29) . كنت في غرفتي مع إينانغ تشولينغ.
ومن خلف ستارة النافذة كنت أراقب الأطفال في الفناء الداخلي أبناء
عمتي عواطف ونورية. في حين كان الجميع في الداخل. عمتي عواطف
وزوجها أحمد؛ نورية وزوجها فيصل» عمتي هند وخولة وماما غنيمة
وأحفادها الكبار. جرس البيت يدق بين حين وآخر. أطفال كثيرون
يجتمعون عند الباب. يرتدون ثيابا مميزة. الأولاد بالثياب التقليدية البيضاء
مع جاكيت بلا أكمام؛ تعلو رؤوس البعض طاقيات والبعض الآخر يرتدي
غطاء الرأس الأبيض مثل الرجال. ترتدي البنات ثيابا مختلفة. قطعة قماش
خفيفة بنقوش ذهبية تغطي رؤوسهن وتمتد إلى منتصف أجسادهن.
والجميع؛ أولادا وبناتاء يعلقون على رقابهم أكياسا من القماش. تقف
عمتي هند عند البابء وإلى جانبها كل من لاكشمي ولوزقيميندا تحملان
كيسا كبيرا من المكسرات وقطع الحلوى. يغني الأطفال عند الباب بصوت
واحد ويصفقون. تنتهي أغنياتهم بحصيلة كبيرة من المكسرات والحلوى
تملأ أكياسهم القماشية. تكررت زيارات الأطفال عند باب بيت جدتي
لثلاثة أيام؛ في مناسبة تقليدية معروفة في الكويت(30)
شاب وسيم في مثل سني أو أصغر بقليل» يرتدي ثوبا أبيض»
(29) غبقة.
(30) قرقيعان: تقليد سنوي في الليالي الثلاث التي تسبق منتتصف شهر رمضان. يطوف
الأطفال على البيوت يرددون الأهازيج ويتم توزيع الحلوى عليهم من قبل أصحاب
البيوت.

تجاوز الأطفال عند الباب؛ قبل عمتي هند وحيّا خولة في فناء المنزل
الخارجي» ثم تجاوزهما إلى الداخل. ما إن تجاوز الباب الخشبي
حتى انفجرت ال كولولولوووش! ذلك الصوت الغريب الذي يصاحب
أهازيج الهنود الحمر. صوت حاد مرتفع كصافرة الحكم. أخبرتني خولة
لاحقا انه الإبن البكر لنورية» أول حفيد ذكر لماما غنيمة. تحتفي بزيارته
كل مرة وهي تصدر تلك الأصوات6؛ وتدعو الله أن يمدّ في عمرها
لتراه متزوجا.

اختفى أفراد العائلة في الداخل. كنت خلف الستارة لا أزال. إينائغ
تشولينغ بين يديٍّ. حمدا لله أن لها صَدّفة قوية» لم تتهشم بفعل الضغط بين
كفي في حين كنت أنظر إلى عائلتي من منفاي في ملحق المنزل؛ والحسرة
تملأ قلبي. لو أنني كنت معهم لكفاني ذلك. أصواتهم» على بعدهاء ترتفع»
تصم آذاني الضحكات والكلمات التي أجهل وال.. كولولولوووش!

ُتح الباب الزجاجي المقابل لباب غرفتي. كانت نورية بزيٍّ غريب»
لعله يخص المناسبة؛ ثوب من قطعة واحدة؛ له أكمام واسعة» أحمر بلون
الدم بنقوش صفراء لامعة. أخذت تنادي:

"عيسى.. عيسى..". أفلتٌ إينانغ تشولينغ من قبضتيّ. لم أبالٍ
بارتطامها على الأرض بين قدمئّ. ختمت نورية نداءها ب: "تعال" قبل
أن تعود إلى الداخل. أعرف عاذ الكلمة جيداء وكيف لي أن أنساها؟
هي تدعوني للدخول إلى غرفة الجلوس ومشاركتهم المناسبة. نورية
التي تكرهني تناديني بإسمي وتدعوني لمشاركتهم! طرت فرحا. لا
أتذكر باب غرفتي الألمنيوم ولا الفناء الداخلي للمنزل ولا حتى الباب
الزجاجي المفضي إلى غرفة الجلوس. وجدتني أقف في الداخل والباب
وراء ظهري. أصواتهم العالية استحالت سكونا مفاجثا وكأنني أصبت
بالصمم. الأعين» كلهاء كانت تخترقني. ماما غنيمة أمسكت بشالها

الملقى على كتفيها بإهمال» ألقته على رأسها. عمتي هند وخولة تنظران
إلى بعضهما والدهشة في أعينهما. عمتي عواطف مذعورة. زوجها أحمد
ذو الذقن الطويلة هب واقفا ينظر إليّ والشرر يتطاير من عينيه. فيصل
ينظر إلى زوجته نورية بنظرة من يطلب تفسيرا لما يحدث. "سلامووو
عليكوووم”» قال الببغاء. ومن باب المدخل الرئيسي جاءت خادمة نورية
تحمل صبيًا صغيرا: "ها هو عيسى.. سيّدتي"؛ قالت لعمتي. وقف فيصل
يحمل ابنه. نورية تداركت الموقف مرتبكة. ناولتني أواني فضية؛ ثم
مدّت يدها بمفتاح سيارة فيصل» وطلبت مني بصفتي الخادم: "ضع
هذه الأواني في السيارة". حملت الأغراض بين يديٍّ المرتجفتين. وقبل
أن أخرج انفجر أحمد يصرخ بي بكلمات لم أفهمها. يلوح بيديه غاضبا
ويشير نحو عماتي» وأنا لا أفهم من صراخه شيئا. خولة ركضت باتجاه
السلم. عمتي عواطف. بوجه مذعور» وبكلمات إنكليزية غير واضحة
فهمت بعضهاء تقول: "لا يجب أن تدخل على النساء.. اطرق الباب
وانتظر في الخارج مرة أخرى.. هذا لا يجوز..هل تفهم؟". هززت
رأسي موافقا: "حاضر سيّدتي". خرجت إلى الفناء الداخلي أحمل أواني
نورية» في حين كان بابو ولاكشمي ولوزقيميندا ينظرون إليّ من وراء
زجاج نافذة المطبخ بنظرات أسى. طأطأت مبتلعا بكائي.

عند سيارة فيصل» في حين كنت أضع الأواني في صندوق السيارة؛
جاءت نورية بحاجبيها المرفوعين للأعلى» بوجه تجمعت فيه الدماء.
التفتت وراءها نحو باب المدخل الكبير. لا أحد. أمسكت بقميصي
تشدّه. ضغطت على أسنانها تقول: "اسمع.. هذه المرة أنقذتك بجعلك
خادما.. في المرة المقبلة سأتركك لزوج عواطف يحرّ عنقك". ازدردت
ريقي بصعوبة. كنت أرتجف. الستارة في النافذة العلوية المقابلة للشارع
تتحرك. كانت خولة تراقبنا من الأعلى. أحكمت نورية قبضتها على
قميصي. هزتني. بذلت جهدا لأقول: "ولكن.. أنتٍ من ناداني عمتي..".

- اخرس!.. لست عمّتك..

تلقى عقلي الأمر. سقطت كلمة "عمتي" التي تسبق اسم نورية منذ
ذلك اليوم على الرصيف أمام بيت جدّتيء أو لعلها وقعت في صندوق
السيارة المفتوح قبل أن أطبقه على أوانيها. التفتت نورية إلى الوراء.
اطمأنت لعدم وجود أحد. أتمت:

-ِ كنت أنادي عيسى ولدي يا غبي..

أفلتت قميصي. وقبل أن تنصرف عائدة إلى الداخل. قالت:

- إذا ما ناديتك يا فلبيني.. عندها فقط يمكنك أن تجيب!

* *د#*

انطلت الحيلة على أحمد وفيصلء رغم استغرابهما لجلب ماما
غنيمة خادما من الفلبين» والعادة هنا أن يجلب الناس الخدم. الرجال
تحديداء من الهند أو بنغلاديش.

في غرفتي» احتضنت إينانغ تشولينغ. بكيت كما يبكي الأطفال أمام
زجاجة صغيرة ملأت نصفها بتراب أبي الذي حملته معي يوم زيارتي
إلى المقبرة. أنظر إلى الزجاجة وكأني أطلب من التراب فيها أن يشهد
على ما يجري. ارتميت على سريري.غفوت. لا أتذكر كم استمرت
إغفاءتي» ولكنني أتذكر انتي صحوت على صوت نداء صلاة الفجر»
أيقظني من موتي في حلم أفزعني. كنت في مندناو. ذراعاي مقيدتان
إلى ظهري. وجهي إلى الأرض. نورية وعمتي عواطف تمسكان بكتفيّ
تثبتانتي إلى الأرض. ماما غنيمة تجلس في مكان بعيد بين الأشجار
الاستوائية» بعينين دامعتين» لا تحرك ساكنا. هممت أناديها.. أستنجد
بها: "ماما غد..". أحدهم شد شعري إلى الوراء. التقت عيناي بعينيه
مباشرة. كان أحمد زوج عمتي عواطف يُمسك سكينا.. صرخت: "ماما
عد" جز أحمذ عنقي قبل أن أتم اسم جدتي.

* * *

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن