[الجزء الرابع] البارت الثاني عشر(١٢)

145 10 0
                                    

على هذا النحو قضيت الأشهر الأولى في منزل جدّتي غنيمة.
أتداول وجباتي الثلاث في المطبخ. يتجنبني الخدم في فناء البيت ولا
يتحدثون إليّ» ويتغيرون تماما إذا ما اجتمعنا في المطبخ بعيدا عن أعين
الآخرين. يتحدثون معي ويعاملونني معاملة طيبة باستئناء راجو السائق
الذي كان يتجنبني. هو الوحيد الذي لم يكن يعرف شيئا من أمري؛ كما
بالتقاط السهل من الكلمات العربية؛ أفهم بعضها وأستخدمه أحيانا على
الطريقة التي يتفاهم بها الخدم مع أفراد البيت أو فيما بينهم» خليط من
إنكليزية وعربية ركيكة.

في غرفتي كنت أقضي وقتي متابعا التلفاز وأفلام ال DVD أو
ميرلا. أرسلت لها عبر الهاتف عنوان بريدها الإلكتروني والرقم السري
الخاص لفتحه؛ ما سهّل من تواصلي معها. كم كنت أشتاق إليها..
ميرلا.. الحب الممنوع. كنت أقضي كثيرا من الوقت في الكتابة لها أو
الرد على رسائلها.

أخرج مع مغيب الشمس أمشي في المنطقة» أصل إلى السوق
المركزي؛ أتسكع بين المحال التجارية التي تحيط به؛ ثم أقضي حوالي
ساعة في شارع المشاة المطل على الشارع الرئيسي. شارع المشاة طويل»
لا يميزه شيء. تصطف البيوت الكبيرة على أحد جانبيه» وفي الجانب
الآخر يمتد الشارع الرئيسي. في مكان ماء في شارع المشاة» لا يتجاوز
طوله مائتي متر» تنتشر الأشجار بشكل جميل على الجانبين. كان هذا
مكاني المفضل. تحت لافتة زرقاء كبيرة مكتوب عليها "شارع دمشق"
كنت أجلس. أدير ظهري لبرادة ماء من تلك البرادات التي تنتشر بكثرة
في شارع المشاة» يتبرع بها الأهالي لتسد عطش المشاة أو العمال في
النهارات المشمسة. كنت أجلس على الأرض مواجها الشارع الرئيسي؛
وؤرائي مساحة ترابية تخلو من البيوت. السيارات في الشارع الرئيسي
تنطلق بسرعة. أصواتها مزعجة. ولكنني مضطر لتحمل ضجيجها من
أجل بقائي قرب الأشجار. هو المكان الأفضل مقارنة مع غيره. كنت
أنظر إلى المساحة الترابية ورائي وأحادثني: "لو كانت لي.. لزرعتها
بالمانجو والجاكفروت والأناناس والموز وجميع الأشجار التي تنبت
في أرض ميندوزا".

خولة كانت تزورني كل يوم»؛ ولكنها لا تدخل غرفتي تكتفي
بالوقوف عند البابء نتبادل الحديث لساعات أحيانا على هذه الحال»
من دون أن يقترب أحدنا من الآخر. أثناء أحاديثنا أنا وخولة» كنت أستمع
بين حين وآخر إلى صوت انزلاق النافذة العلوية في مجرى إطارها.
كانت جدّتي غنيمة تطل من غرفتهاء تراقبنا وتطمشن إلى أن خولة لا
تدخل غرفتي. خولة لا تخرج كثيرا. تذهب إلى المدرسة صباحا. تخرج
مع عمتي هند أحيانا إلى السوق أو المقاهي. نادرا ما تلتقي والدتهاء
لأن ماما غنيمة لا تطمشن لبقاء حفيدتها في بيت رجل غريب. كما أن
زوج إيمان يرفض أن تزور زوجته بيت زوجها السابق. أما خولة فليس
لها سوى الهاتف أو اللقاءات السريعة التي تجمعها بأمها في الخارج.

تنازلت لي عمتي هند عن حصتها من راتب والدي الشهيد
الموّزع عليها هي وجدّتي وأختي. ورغم أن لي حصة في هذا الراتب
فإنني لم أطالب به. أصبحت عمتي ترسل الخدم في أوقات مختلفة
ببعض الهدايا والملابس وبطاقات تعيشة الهاتف النقال كي أتمكن من
التواصل مع أهلي في الفلبين. كنت أرسل لها رسالة عبر الهاتف كلما
جاءني الخدم بهداياها: "شكرا عمتي هند"» وكانت ترد بكلمة واحدة:
"عفوا". اصطحبتني ذات يوم إلى جهة حكومية خاصة بالوثائق الرسمية.
قدت لهم أوراقا وتسلمث أخرى. في زيارة لاحقة للمكان ذاته خرجنا
بشهادة جنسية. دفتر صغير بأربع صفحات. غلافه أسود يحمل كلمات
عربية باللون الذهبي؛ يتوسطه شعار كالذي تحمله الأوراق النقدية.
على الصفحة الثانية صورة شخصية لي» أسفلها كلمات عربية. "بصفة
رسمية.. أنت كويتي” قالت عمتي هند من دون أن تلتفت نحوي في
حين كانت تقود سيارتها إلى البيت. قلت في نفسي: "وبصفة عائلية..
ماذا أكون؟". لم ألتق عمتي هند سوى مرات قليلة جداء أغلبها مصادفة
في فناء البيت الداخلي» وعلى ذلك فقد كنت أشاهدها بين حين وآخر
على شاشة التلفاز تتحدث في أمور لا أفهمها.

عمتي عواطف ونورية تزوران جدّتي كل أسبوع مع زوجيهما
وأبنائهماء وفي وقت الزيارة كان يمنع عليّ الخروج من الغرفة خشية
أن يعلم كل من أحمد وفيصل. زوجا عمتيّ. بأمري. رغم ان عمتي
عواطف أبدت تعاطفها معي إلا انها انصاعت لأختها نورية: "أحمد
وفيصل صديقان. إذا علم أحمد زوجك بأمر الفلبيني قد يصل الأمر
إلى زوجي فيصل.. لن تلومي إلا نفسك إذا حدث ذلك”. ضعيفة كانت
عمتي عواطف. أهدتني ذات يوم» عبر خولة؛ نسخة من القرآن باللغة
الإنكليزية وسجادة صلاة؛ اختفت بعدها انصياعا لأمر نورية» ولكنها
كانت تسأل عني باستمرار كما فهمت من خولة: "هل يُصلي؟". لم
أقترب منهم. كان الحل في خروجي من المنزل يوم الزيارة؛ حيث
أصبحت الزيارة العائلية تتزامن مع زيارتي لغسان. يأتي ليأخذني من
البيت. نتناول طعامنا في الخارج أو في شقته أحيانا.

في فصل الصيف. تقضي جدّتي عطلات نهاية الأسبوع؛ الخميس
والجمعة»؛ في الشاليه بصحبة عمتي وأختي. كانت جدّتي تسمح لي
بمرافقتهن إذا ما علمت أن أحدا من أحفادها لن يقضي العطلة في الشاليه.

لم تكن جدّتي لتوافق على احتكاكي ببقية أحفادهاء ولا أن يعرفوا شيئا
من أمري» لأن السمكة الفاسدة؛ كما تقول» تُفسد بقية الأسماك. لست
أدري» هل ألوم خولة على إخباري بكل ما تقوله جدّتي عني أم أشكرها؟
كانت صريحة معي» وكانت صراحتها رغم كل شيء قاتلة.

خصصت لي عائلتي غرفة ملحقة بالشاليه؛ في الاتجاه المعاكس
للبحر. لم يكن مسموحا لي بدخول الشاليه أو الاقتراب من البحر
خصوصا إذا ما كانت نورية موجودة. كانت رحلتي الأسبوعية إلى الشاليه
تشبه الذهاب إلى السجن. ننطلق في سيارتين. الأولى لجدّتي وأختي
تقودها عمتي هندء والثانية لبابو ولاكشمي ولوزقيميندا يقودها راجو.
وليس من الضروري أن أشير في أي من السيارتين كنت أذهب.

البحر جميل في الليل؛ وفي الحقيقة لم أره في وقت آخر كي
تتسنى لي المقارنة» لأنني كنت طيلة النهار حبيسا في الغرفة الكثيية
أقتل الوقت بواسطة اللابتوب. ذات ليلة من ليالي عطلات نهاية الأسبوع
تركت غرفتي متجها إلى البحر. مررت على مظلات ثلاث كبيرة. أسفل
الأولى مولد كهرباء كبير يُستخدم إذا ما انقطع التيار الكهربائي عن
الشاليه. أسفل المظلة الثانية سيارة جيب قديمة غطاها الغبار إلى درجة
تجعل من تمييز لونها أمرا مستحيلا. أما المظلة الثالثة فقد كانت لمركب
صغير. وقفت أمامه أتفحصه. "لابد أن يكون هو!"؛ قلت في نفسي. كم
من حكايات شهدها هذا المركب القديم وكم من شخص حمل.. أبي
وغسان ووليد.. أسماك كثيرة.. أمعاء الدجاج و.. أمي.

أدرت ظهري للمركب هاربا من ذكريات لم أساهم في صنعها. إلى
الشاطئ حثثت الخطى. رغم رطوبة الجو كانت رمال الشاطئ باردة. مياه
البحر تنحسر في الجزرء تاركة الرمال نظيفة على مستوى واحد. لولا
المدّ والجزر لربما بقيت آثار خطوات أمي هنا شاهدة على بداية مأساتي.

جلست على الرمال الرطبة. الهدوء والظلام وصوت الأمواج
البعيدة ورطوبة الجو أحالوني إلى بوراكاي. كان ينقصني اللون الأزرق»
ولكن الظلام يحيل كل شيء إلى لونه.. أسود. يبدو زمنا طويلا يفصلني
عن تلك الأيام. للمسافات المكانية أبعاد أخرى نجهلهاء يتمدد خلالها
الزمن» كلما ابتعدنا بالمسافة يوغل الزمن في البُعد؛ أو هكذا نشعر. لم
أكد أصدق» في ذلك الوقت؛ أنني كنت منذ أقل من سنة في بوراكاي.
أطلقت نظري في عمق الظلام حيث لا خط يفصل بين البحر والسماء»
وكأنتي أبحث عن ويليز-روك» صخرة بوراكاي الشهيرة» ولكن لاشيء
يستفز الظلام هناك سوى وميض أحمر كان والديّ يبحران باتجاهه ذات
يوم. تركت الشاطئ عائدا إلى الغرفة.

* * *

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن