[الجزء الرابع] البارت الرابع عشر (١٤)

132 11 0
                                    

في العشرين من يونيو 2006 هاتفني غسان يطلب مني مرافقته
إلى مكان ما: "غيّر ملابسك.. سوف آتي لآأخذك خلال دقائق". غيرت
ملابسي على عجل وانتظرت وصوله في غرفتي. لم يتأخر. سمعت بوق
محبوبته. ركبت السيّارة وانطلق بي إلى حيث أراد أن يأخذني. في الطريق
سألني: "هل تتذكر أبا فارس الذي أخبرتك عنه؟". تذكرت الاسم على
الفور» ذلك الشاعر الذي تم أسره زمن الحرب بسبب قصائده وأغنياته
المحرّضة على المقاومة والصمود. أخبرني غسان انه ذاهب ليودعه
الوداع الأخير حيث سيتم دفن رفاته في الكويت بعد أن عُثر عليها في
مقبرة جماعية بالقرب من كربلاء في العراق. لم أتوصل لسبب واحد
يدعو غسان لاصطحابي معه. لماذا؟ لم أسأله». ورغم ذلك أجاب على
سؤالي الصامت من تلقاء نفسه: "أريدك أن ترى كيف استُقبل والدك قبل
أشهر استقبال الأبطال.. وهي مناسبة أيضا لتزور قبره". شعرت بانقباض
في صدري. لماذا عليّ أن أتعلق بذكرى هذا الرجل أكثر؟ لماذا علي
أن أحبه أكثر؟ لماذا الآن وهو لم يعد هنا؟ لماذا أتعذب من أجل رجل
شاهدته في زمن ما قبل الذاكرة؟ فخور به أنا بلا شك» ولكن حزني
بدّد كل شعور آخر.

في مكان مشابه لذلك الذي شاهدت فيه جموع الناس» عبر
التلفازء تودّع أميرها في اليوم التالي لوصولي إلى الكويت» كان مكان
دفن رفات الأسرى الشهداء. مساحة رملية كبيرة. تنتشر ألواح القبور
في خطوط أفقية. أناس كثيرون جاؤوا لتوديع أحبتهم. رجال ليس من
بينهم امرأة؛ بالزي العسكري. شخصيات مهمة؛ على ما يبدو تلك
التي رأيتها بالثياب التقليدية والعباءات ذات الحواشي الذهبية بألوانها
المختلفة.. سوداء.. بنية ورمادية. رفات الشهداء مغطاة بعلم الكويت كما
في الصورة التي رأيتها عبر التلفاز للأمير الراحل يوم وصولي. سألت
غسان إن كان والدي التحف بعلم بلاده مثلهم. هزٌ رأسه إيجابا. أحببت
العلم» ومنذ تلك اللحظة أصبح علم الكويت.. علمي.

وجه غسان الحزين» كما هو حزين. إلا أن دموعا زادت من حزنه
حزنا انتقل إليّ كالعدوى. كثير من الناس كانوا ينظرون إليّ. يتهامسون.
يستغربون وجودي على ما يبدو. تبَّا لهذا الوجه. تعددت أسمائي وبقي
وجهي صامدا كما هو يثير دهشة الناس من حولي.

أحدهم يمد كفه لغسان يصافحه. أحدهم يقبله. آخر يحضنه بجسد
يهتز كاتما بكاءه. أبعد كل تلك السنوات يبكون موتاهم؟!

انتهت مراسم الدفن. انفضٌ الرجال واحدا تلو الآخر. أشار غسان
نحو مكان ليس ببعيد: "سيكون راشد سعيدا بلقائك.. أقسم أنه يستمع
إلى وقع أقدامنا الآن تقترب منه". اقشعر بدني. شيء كدبيب التمل أخذ
يسري في رقبتي صعودا إلى صدغيٌ. خطواتي إلى قبر أبي ثقيلة. عند
القبر أقعى غسان يتلو صلاة. "سأذهب بالسيارة لزيارة قبر أمي وأبي..
لن أتأخر"؛ قال بعد أن فرغ من صلاته. ثم.. وحيدا وجدتني في حضرة
أبي. التفتٌ ورائي حيث غسان يمشي بحذر بين القبور باتجاه سيارته.
كيف لا يسكن الحزن وجهه وكل أحبته يسكنون القبور؟

جلست على التراب إلى جانب القبر. وضعت كفى على سطحه.
أطبقت قبضتي على حفنة تراب: "بابا..". لو أنني لم أبدا بهذه الكلمة
لما انفجرت باكيا. وجدتني اختنق بالكلمات. مرّت أمامي صوره التي
شاهدتها في درج غسان وفي حقيبة أمي. كل السعادة والجنون والحب
والشجاعة في قلب هذا القبر. ارتعشت شفتاي. كررت: "بابا". ولأن
لي صوت أبي؛ وجدتني من دون قصد أجيبني: "هذا أنت يا عيسى؟".
هززت رأسي باكيا: "نعم.. هذا أنا.. لقد عدت إلى الكويت بابا". "انني

أرقد الآن بسلام يا ولدي". الدموع انسابت من عينيٌّ بسخاء. مسحتها
بكفي المتربة. استحالت دموعي طينا على وجهي. نشيجي غلب قدرتي
على الكلام. لم أقوّ على قول شيء. لم أقل له أنني أحبه وأحتاجه.. أنا
منبوذ.. جدّتي متورطة بي وعمّاتي لا يعترفن بوجودي.. أنا وحيد.. أنا
ضعيف.. لم أقوّ على قول ذلك؛ أو انني أردته أن ينعم بالسلام ما دام
غير قادر على فعل شيء.

محبوبة غسان تنادي. انتصبت واقفا. أدرت ظهري للقبر متجها
إلى السيّارة من دون أن ألتفت إلى الوراء. أثناء طريق العودة» كنت
أحاول عبثا أن أكتم شهقاتي. غسان لم يف بكلمة. عند وصولنا قرب
منزل جدّتي سألني: "هل أنت على ما يرام؟". "نعم أنا بخير”» أجبته.
أشار بعينيه إلى يدي: "لماذا تحكم قبضتك هكذا؟". فتحت كفي: "حفنة
من تراب أبي".

مسح غسان بيده على رأسي مثل كلب أليف.

***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن