[الجزء الرابع] بارت العشرون (20)

123 13 0
                                    

يبدو أن ميرلا تمر بظروف صعبة. تلك الصلبة العنيدة اللامبالية
باتت تظهر بصورة أخرى أكاد لا أعرفها. رسائلها الإلكترونية تشي
باضطرابات نفسية تمر بها ابنة خالتي. أزعجتني الرسائل التي لم أتمكن
من فهم محتواها فهي أقرب للهلوسة. رجوتها في إحدى رسائلي أن تفتح
نافذة المحادثة بالكاميرا. "أرغب برؤيتك"؛ قلت لها. رفضت. رجوتها.
أصرّت. مضى أسبوع؛ أقل أو أكثر. أرسلت هي تطلب: "أرغب برؤيتك".

بعد ما يقارب العام من سفري شاهدث ميرلا لا تشبه ميرلا.
على شاشة اللابتوب ظهرت. الجو المحيط يشي بأنها في أحد محال
الانترنت. الصورة تبدأ واضحة ثم تبهت تدريجيا. نعيد الكرّة. تغلق
الكاميرا ونعيد تشغيلها كلما بهتت الصورة. وجه ميرلاء رغم وضوح
الصورة ونقائهاء باهمت. هالات داكنة حول عينيها. شفتاها بلون لا
يختلف كثيرا عن بشرتها الشاحبة» ولكنهاء رغم ذلك كله؛ لا تزال
مثيرة. "ألو.. ألو.. هل تسمعينني؟". تومئ برأسها إيجابا. ثم تستخدم
لوحة المفاتيح. تكتب: "المحل هنا..”» تتلفت حولهاء تتم: "كما ترىء
مزدحم بالناس.. سأستخدم لوحة المفاتيح بدلا من المايكروفون".

تنهمك في الكتابة مستغرقة وقتا أطول مما ينبغي. دقائق تنبئ
بحجم النص الذي تقوم بكتابته. تهزرٌ رأسها منزعجة. تتوقف قليلا.
تواصل الكتابة. نبضات قلبي تتسارع بانتظار كلماتها. يمضي الوقت.
ثلاث.. أربع أو خمس دقائق. عيناها لامعتان. وأناملها تعمل على لوحة
المفاتيح. رفعت رأسها تنظر إلى الشاشة في حين كنت متحفزا لقراءة
النص وما يحمله من أخبار. أرسلت كلماتها ثم حجبت وجهها بكفيها
باكية. قرأت ما كتبتٌ: "أشعر باللا جدوى". قرّبت المايكروفون من
فمي. همست: "ليس هذا ما كنتٍ تعكفين على كتابته طوال خمس دقائق
ميرلا!". أغلقث الكاميرا. اختفت.

مساء اليوم نفسه وصلتني رسالة عبر البريد الإلكتروني. رسالة لا
تشبه هلوساتها السابقة:

هوزيف»

ترددت كثيرا قبل أن أرسل لك رسالتي هذه. لست أدري لماذا انت
بالذات. أنت الرجل الوحيد الذي لا أحمل تجاهه شعورا عدائيًا. لعلنا
نتشابه إلى حد كبير. كلانا يبحث عن شيء. يبدو أنك وجدته؛ أو توشك
على ذلك. أما أنا.. فليس بعد ولا أظنني سأجده. اثنان وعشرون عاما لم
أعثر فيها على نفسي. لا أزال إبحث عني ولم أجدني. هناك أمور تغلبت
عليها وامور تغلبت علي وهناك أمور لا أزال في صراعي معها. حين
وشمت ساعدي MM. قبل سنوات» كنت أخاتل نفسي. الجميع» وأنت
أحدهم فسّر الأمر على انني جمعت حرفينا أنا وماريا ولم يدرك أحد
سواي بأنني كنت أنسب نفسي عنوة إلى جد يمقتني.. ميرلا ميندوزا.

الناس لا يهتمون لحكايتي. وكوني ابئة غير شرعية لا ينقص من
قدري شيئا هنا فجمالي. الشيء الوحيد الذي ينظر إليه الناس، بصرف النظر عن كل ما عداه. ولكنني. لا أنظر في هذا الجمال سوى علامة تميزني
عمن حولي وتذكرني بماضي أي وظروف ولادتي _لديك أوروبي حقير.
وجدتتي أعوض نقصي بحب الفلبين وكل ما هو فَليني وكأني أمحو بهذا
الحب آثارا تركها والدي الأوروبي على وجهي. عشاقت رموزها وترائها
وثقاذتها. وفي المقابل نما بداخلي كره أوروبا والأورويين» أولتك الذين
احتلوا بلادنا قبل سنوات طويلة» ورغم خروجهم بقيت آثارهم تشهد على
مرورهم من هنا. وبقي اسم بلادنا كما أطلقوا عليه الفلبين» نسبة إلى ملكهم
فيليب الثاني. وبل سنوات ليست ببعيدة احتل رجل أوروبي جسد آيدا.

كنت ممتنا للصورة التي ظهرت على شاشة التلفاز الصامت بعد
فراغي من قراءة الرسالة. أخذتني من غموض ميرلا وحزنها إلى عالم
آخر بعيد. أمسكت بالريموت كونترول أرفع من مستوى الصوت. فرقة
جاوز عددها الخمسة والعشرين رجلا. ينشرون في صفوف يرتدون
الثياب التقليدية بشكل مختلف عما اعتدت رؤيته. حواشي ثيابهم
وياقاتها مطرزة بألوان مختلفة. أكمامهم واسعة جدا. يظهر خلفهم
مجسم لسفينة خشبية تشبه شعار الدولة في العملات النقدية ومن خلفها
أعلام الكويت مثبتة إلى الجدار. الرجال في الصف الأوسط يمسكون
بالدفوف يواجهون الكاميراء وعن يمينهم صف يواجه صفا آخر عن
يسارهم» يصفقون بالطريقة التقليدية التي أحب. أحدهم ينتقل بحرية بين
الصفوف يحمل بين يديه طبلا مربوطا بحبل إلى عنقه. يقترب الرجال
في الصفين المتقابلين إلى بعضهم حتى يكاد الصفّان يلتصقان ببعضهما.
يصفق الرجال وهم يرددون الأغنية بصوت واحد. يتباعد الصفان إلى
الوراء يمسك الرجال في كل صف بأيدي بعضهم البعض. تتغير الأغنية.
يفسحون المجال لرجال عدة يرقصون تلك الرقصات التي أعرفها جيدا.
تتمايل أكتافهم إلى الأمام» يثبّتون أكفهم فوق غطاءات رؤوسهم الملقاة
كيفما التفق» يقفزون في الهواء قبل أن يستديروا إلى الخلف متمايلين.
الضحكات على وجوههم انتقلت إلى وجهي. وقبل أن يتركوا مساحة
رقصهم في المنتصف وجدتني أترك طاولة اللابتوب إلى منتصف
غرفتي أحاكيهم رقصا والإبتسامة على وجهي كبيرة. ذات الإحساس
الذي انتابني بصحبة مجانين بوراكاي ينتابني مرة أخرى بصحبة الرجال
على شاشة التلفاز. أخذثٌ أصفق بالطريقة التي يفعلون. أتمايل بكتفي
وأستدير حول نفسي. عاد الرجال إلى صفوفهم ليظهر صاحب الطبل
وحيدا يمشي متمايلا بين صفوف الرجال. واصلتٌ رقصي إلى أن انتبهت
إلى رنين هاتفي:
- ألو عيسى!

- أهلا خولة..

- هلا أخفضت صوت التلفاز.. ماما غنيمة تقول.

***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن