[الجزء الثاني] البارت الخامس (٥)

292 20 0
                                    

     ليس هناك ما يميّز علاقتي بالكنيسة في بلاد أمي، فزيارتي لها قليلة جدا، زرتها لأول مرة، بعد تعميدي، مع خالتي آيدا وخالي بيدور وزوجته، حين بلغت الثانية عشر وذلك لتثبيت، وفقا لأسرار السبعة المقدسة، والتي لم أجرِ منها إلا ثلاثة، هي التعميد والاعتراف والتثيبت.

     أما طقس الاعتراف الأول فقد تم بترتيب من إدارة المدرسة، حيث عادة ما تستقبل المدارس قسيسا للقاء طلبة الصف الثالث الإبتدائي لآخذ اعترافاتهم. كنت في التاسعة حين زارنا قس الكنيسة لإجراء هذا الطقس. اصطففنا في طابور خارج الصف، في حين بقي القس في الداخل يستقبل الطالب تلو الآخر. ويالها من ذنوب تلك التي كانت بعمر مرتكبيها، صغيرة، لا تخرج عن "كذبت يوما ما على مدرّسة الفصل.. عصيت أمر أمي في.. سرقت قلما أو دمية من.."، ولكن ذنبي جاء مغايرا. لم يكن ذنبي بعمري آنذاك، فقد كنت أراه بعمر.. إينانغ تشولينغ!

     إينانغ تشولينغ،  جارتنا العجوز، مرعبة أطفال الحيّ، التي يحتل منزلها مساحة صغيرة من أرض جدّي، تظلله شجرة المانجو العمالقة.

     إذا ما عادت بي الذاكرة إلى أرض جدّي ميندوزا، لا بد وان أتذكر ثلاث مخلوقات، غير بشرية، تشاركنا أرضنا الصغيرة، كلب جدّي وايتي، وديوكه، و إينانغ تشولينغ.  وحيدة كانت بلا زوج أو أولاد. لم أشاهدها خارج منزلها الصغير قط. كل ما كنت أشاهده منها هو نصفها العلوي حين تظهر من خلف باب بيتها تتفقد طبق الطعام اليومي. كانت والدتي تقوم بتنظيف بيتها كل أسبوع أثناء مرض جدّتي وبعد وفاتها، فقد كانت جدّتي تقوم بتلك المهمة قبل ذلك، وفي أثناء سفر والدتي قامت خالتي آيدا بهذا الدور. أما نساء الحيّ الأخريات فقد كنّ يضعن لها أطباق الطعام صباح ومساء كل يوم عند باب منزلها. كنت في السابعة من عمري حين مررت أمام منزل إينانغ تشولينغ،  ذات يوم، متجها إلى بيتنا عائدا من المدرسة أتضور جوعا. شاهدت إحدى نساء الحي أمام منزل إينانغ تشولينغ تضع الطبق اليومي على الأرض. عادة ما يحتوي الطبق، على الرز الأبيض، أو فواكه مقطعة، أو الموز المقلي، ولكن في ذلك اليوم رأيت نصف دجاجة تستلقي في طبق إينانغ تشولينغ أسفل الباب. سال لعابي. توقفت أمام منزلها، تفصل بيننا مسافة قصيرة، لم أتجاوزها قط خوفا من صاحبة المنزل. كنت أحدّق في الطبق، والصمت يكاد يبتلع المكان لولا حفيف الأشجار وطنين النحل المتزاحم في خلية عملاقة بين أغصان شجرة المانجو أعلى منزل الساحرة. التفتُّ حولي مترددا "هل أفعل؟"..

     اتجهت بنظري إلى قبضة بابها الخشبي..

     "ماذا لو ضهرت فجأة وسحبتني إلى الداخل؟"..

     شرعت بقضم أظافري..

     "سوف أجري قبل أن تمسك بي"

     تقدمت خطوة..

     "ماذا لو ماتت جوعا؟"

     هبطت بنظري إلى الطبق أسفل الباب..

     "تبدو شهية.."

     من مكان قريب.. تناهى إلى سماعي نباح كلب.. لا بد أن يكون وايتي..

     "سوف يسبقني إليها الكلب إن لم.."

     تقدمت خطوة، تدفعني خشيتي من أن يسبقني الكلب.. ثم أوقفني خوفي من أن تسحبني إينانغ تشولينغ للداخل.. دفعني جوعي لتقدم للأمام خطوة أخرى.. توقفت خوفا من أن تموت العجوز جوعا.. ثم.. ارتفع نباح الكلب.. اقترّب.. وطنين النحل يتواصل.. تقلصت أمعائي.. قفزت إلى باب إينانغ تشولينغ لأحكم قبضتي الصغيرة على نصف دجاجة مستلقية في الطبق على الأرض لأجري بعيدا تاركا لها الطبق فارغا.

     في الفصل، بعد عامين من حتدث إينانغ تشولينغ،  حين كنت وحيدا وإياه، اعترفت للقس بسرقتي طعام العجوز، رغم أني لم أتذوقه.

     - تب عن  فعلتك أولا..

     هززت رأسي إيجابا:

     - سأفعل يا أبانا.. ولكن

     - صلِّ لأبينا المسيح عشرين مرة.. وللعذراء..

     ابتسم القسِّ ابتسامة تشي بانتهاء الطقس..

     - ولكن.. هل ستخرج النحلة من رأسي يا أبانا؟

     بدا على وجهه الإستغراب واصلت موضحا:

     - عندما جريت هاربا من منزل إينانغ تشولينغ.. لحقت بي نحلة..

     بدا على وجهه الإهتمام. هز رأسه يحثني على المواصلة..

     - كنت أجري وطنينها يقترب من أذني.. فزعت..

     أخذت أضرب الهواء حول وجهي شارحا للقس ما حدث..

     - حاولت أن أبعدها.. ولكنها طانت مصرّة على شيء ما..

ارتطمت بأذني..

     ضربت أذني بإصبعيّ مواصلا مشهدي التمثيلي..

     - ضربتها.. أفلتّ الدجاجة من قبضتي لاسقط أرضا.. ثم.. وضعت كفيّ على أذنيّ.. وعينايّ في وجه القس تحدقان..

     - اختفى الطنين فجأة.. ثم.. أصبحت أسمعه داخل رأسي!

     ابتسم القس.. تلاشت ابتسامته تدريجيا.. سرح في شيء ما.. لم يطل صمته:

     - انه الذنب..

     قال، ثم أردف:

     - سيغفره لك الرب إن صلَّيت.. وسيتلاشى الطنين

     صلَّيت.. صلَّيت كثيرا، ولكن.. طاب لنحلة البقاء داخل رأسي طويلا..

                                 ***

ساق البامبوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن